الحِكم الفارسية وتأثيرها في الأدب العربي

الأربعاء 14 يونيو 2017 - 11:34 بتوقيت غرينتش
الحِكم الفارسية وتأثيرها في الأدب العربي

شهد القرنان الثاني والثالث الهجريّان اهتمامًا عديم النظير أَوْلَتْه الأمّة الإسلاميّة للحركة العلميّة والفكريّة.

وقد كان للنفوذ السياسي الفارسي في دولة بني العبّاس أثر بارز في تحديد طبيعة الصلات الثقافيّة بين هذين الشعبين في وقت مبكر . حيث كانت الكتب التي كان موضوعها السياسة الملوكيّة عند الفرس أولى الكتب التي ترجمت بالعربيّة من الآثار الأجنبيّة في الأدب والسياسة، فوُضعت في متناول حكّام العرب وقوادهم ثمار تجارب عديدة في الحكم والسياسة، وأصنافًا من العلوم والآداب كانت تجمع معارف العصر، وشطرًا كبيرًا من التراث الحضاريّ الإنساني فكانت هذه التراجم أقدم كتب وجدت في اللغة العربيّة في تلك الفنون، ومن الطبيعي أنْ تكون الحكم والنصائح والوصايا السياسيّة والاجتماعيّة تبعًا لهذه الحال في طليعة الكتب الفارسيّة التي تناولتها أقلام المترجمين بالنقل والتعريب. وقد نجم عن ذلك رواج هذا الجنس الأدبي في الأوساط العربيّة الإسلاميّة رواجًا منقطع النظير.

وإذا كانت الحِكَم والنصائح والوصايا الفارسيّة وليدة الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة التي سادت في عصر بني ساسان، فإنَّ ميلاد وضع اجتماعي وسياسي مشابه لذلك في العصر العبّاسي الأوّل يستدعي تعبيرًا عنه بمثل النمط الأدبي الذي عبر عن التجربة الفارسية السابقة معنىً ومبنىً، والحقيقة التي لا ريب فيها أنَّ الحياة السياسيّة والاجتماعيّة في الدولة العبّاسيّة الاولى تلك، التي تأثّرت بنظام الدولة الساسانيّة وحياتها الاجتماعيّة، كانت وراء فيض من الحِكم التي ترجمها ابن المقفّع والبلاذُريّ والحسن بن سهل وسواهم في السياسة الملوكيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة. فضلاً عن دَوْرِ الكتَّاب الذين كان جلّهم من اهل بلاد فارس كان منصبُ الكاتب يقتضي على صاحبه أنْ يكون واساع الثقافة متجدّد المعرفة، لأنه يعرض على الخليفة أو الوالي ما يُرسَل إليه، ويكتب عنه ما يُرسل منه، فكان لابد للكاتب ان يجيد العربيّة وان تكون لديه معرفة بالأدب الفارسي .  

عالجت حِكمُ الفرس وأمثالهم مسائل وقضايا كثيرة ومُعقّدة، كانت لها أصداء عالية في حياتهم، حيث وضعت مقاييس للسلوك الاجتماعي، تضمن خير المعاش والمعاد. وتناولت مسائل سياسية واجتماعية ونفسية، وبعض قضايا اقتصادية وعسكرية ذات مساس كبير بحياة الناس والمجتمع في ذلك الزمان. وفي هذا المقام يمكن اعتداد الموضوعات التي أثارها ابن قتيبة في عيون الأخبار وابن عبد ربه في العقد الفريد، كلها تمثل تأثّر الثقافة وحياة المجتمعات العربية وتأثراً مباشراً بموضوعات الحِكم الفارسية .

إنّ الأدب وإن اختلف الباحثون في تعريفهم له يهدف إلى التأثير في نفوس مخاطبيه وهذا التأثير لا يأتي إلا على ضوء عنصرين أساسيين هما المضمون والشكل. بعبارة أخرى إذا صيغت فكرة ما في قالب فني، يتحقق هذا التأثير ويجذب الإنتاج الأدبي قراءه وسامعيه وبهذا التعريف فإنّ كل كلام يعبر عن معنى ويتصف بالتأثير والجمال ويصب في قالب فني، يمكن أن تدل عليه كلمة الأدب.

والأمثال سواء كانت عامية أو فصحى تعتبر نوعاً من الأدب لأنه يتوافر فيها هذان العاملان وهما الفكرة وقالبها الفني ، وتصاغ فيها فكرة إصلاحية أو إرشادية أو تحذيرية في قالب فني ، يتسم بالتشبيه والتمثيل بناء على التجارب والوقائع في أحداث الحياة. والغاية والهدف هو التأثير في نفوس القراء والسامعين واستثارة عواطفهم.

إضافةً إلى هذا التأثير الذي يلاحظ في تعريف الأدب، يؤثر أدب كلّ أمة في أدب أمة أخرى ويتأثر به ، كما أن اللغات تؤثر واحدة في الأخرى، لذا يمكن القول بأن من صفات الآداب هي التأثر المتبادل بين أدب وآخر وقد اتخذت هذه التأثيرات عبر الزمن أشكالاً شتى وصوراً متنوعة. وغنيّ عن البيان أن الباحث والدارس أثناء دراسته في اللغات المختلفة قد يصادف عدداً من الأمثال والصور التعبيرية والاستعارات التي انصبت فيها التجارب والخبرات الإنسانية التي تتشابه عند الأمم المختلفة وتختلف في طرق التعبير عنها. وبما أن الصلات بين الفرس والعرب كانت عميقة وقديمة فقد بدا هذا الأمر بينهما أشد وأعمق. وبرزت هذه الميزة في الأدبين على مرّ العصور بصور مختلفة، منها كثرة مضامين الحكم والأمثال الفارسية في الأدب العربي بحيث ظهر المثل العربي أحياناً وكأنه ترجمة حرفية للمثل الفارسي والعكس صحيح .

من أهم كتب الحِكم والأمثال الفارسيّة التي أثّرت في الأدب العربي كتاب بندمانه بزرجمهر، وكتب التأديب، وكتب سير الملوك "خداي نامه "، وكتاب التاج  "تاجنامه"، وكتاب "آيين نامه" .

من الكتب التي كان لها الاثر الكبير في الادب العربي وأشهرها نذكر كتاب (  كليلة ودمنة ) الذي يعتبر من اشهر الكتب التي ترجمها ( إبن المقفع ) .

اهتمَّ الأدباء واللغويّون بكتاب ( كليلة ودمنة ) ، ونقلوا منه حكايات وأمثالاً كابن قُتيبة في ( عيون الأخبار ) أو ألّفوا على منواله ، وكذلك الحال في كتاب (القائف ) للمعرّي الذي مازال مفقودًا، وكتاب ابن الهبّاريّة في الشعر (الصادح والباغم )، وغيرهما  .

تأثّر أدباء العربيّة وكُتابها في العصر بالخصائص الفنّيّة للحِكَم والنصائح والوصايا المترجمة من الفارسيّة، وإذا كانت النصوص البهلويّة الأصليّة للحِكم المترجمة قد فُقِدَت وحيل بيننا وبين الاطّلاع على معظمها فلقد كان الادب العباسي إنعاكساً ساطعاً لتلك النصوص .

وقد طرأت ظواهر جديدة على طرائق التعابير لدى الكتّاب العرب في  العصر العباسي ، لم يكن لها اي تعليل سوى انها جاءت نتيجة للاقتباس عن الأسلوب الفارسي ، الذي انتقلت بعض ملامحه وقواعده إلى الكتابة الفنّيّة العربيّة عبر المترجمات الفارسيّة في هذا العصر .

وهكذا فقد تغيَّر أسلوب الكتابة في العصر العبّاسي الأوّل تغيّرًا واضحًا بعد أنْ اطّلع الكتّاب والمترجمون على ثقافة اهل بلاد فارس وأساليب التعبير لديهم.

الحِكم والامثال كأي مجال آخر من العلوم المختلفة التي يجب العناية بها والحفاظ عليها من الضياع تمثل التراث الذي تتجلى فيه خلاصة تجارب الامم وهي المرآة الصافية التي تعكس الواقع التاريخي والفكري لكل أمة والامثال كعنصر هام من عناصر الادب لها مكانتها الادبية في أي مجتمع من مجتمعات الانسانية ، كما إن للأمثال والحِكم أهمية كبيرة تبرز في مجالات متنوعة فهي تعطي الصورة الحقيقية للفكر الانساني ونمط المعيشة ونوعية العلاقات السائدة بين مجتمع واخر وتجتمع في الامثال خصائص أربعة لاتجتمع في غيره من الكلام وهي : أيجاز اللفظ ، وإصابة المعنى ، وحسن التشبيه ، وجودة الكناية ، وكل ذلك يدخل ضمن دائرة أدب الشعوب والامم .