دور "السيبويه" في تطوير علم النحو

الأربعاء 14 يونيو 2017 - 11:32 بتوقيت غرينتش
دور "السيبويه" في تطوير علم النحو

ان تأليف النحو لن يأتي بين ليلة وضحاها وإنما جاء بعد مجهود كبير جدا من قبل علماء النحو الأجلاء الذين كرسوا حياتهم من أجل رسم معالم هذا العلم . ولعل من أهم علماء النحو هو العالم السيبويه صاحب ومؤلف ( الكتاب ) الذي يعتبره علماء النحو قرآن النحو فهو يعتبر حجة العربية ودستورها ، والسيبويه هو إمام النحاة وأول من بسّط علم النحو ، وعلى الرغم من إنجازاته التي هي اليوم بين أيدينا إلا أن التاريخ لم يحفل بذكر الكثير عن حياته ، فمن هو سيبويه ؟

هو عمرو بن عثمان بن قنبر وكنيته أبو بشر ويلقب بسيبويه ، ولد حوالي سنة 148 هجرية الموافقة لسنة  765 ميلادية على أرجح الأقوال لانه اختلف  الرواة حول تاريخ ميلاده بشكل دقيق ، ولد سيبويه في قرية البيضاء بالقرب من مدينة شيراز وسط ايران ولكن رحلت أسرته من بلاد فارس إلى مدينة البصرة لينشأ (سيبويه ) بالبصرة ، عندما قدم سيبويه إلى البصرة التي كانت حاضرة العلم والثقافة والأدب وكانت تعج بكبار الأئمة والعلماء والفقهاء أخذ ينهل من مناهل العلم والأدب والحديث ، وقد كان سيبويه وقتها ما زال فتى يافعاً يدرج مع أقرانه إلى مجالس العلماء والمحدثين فيتلقى في ربوع البصرة علوم الفقه والحديث ،  فكان يستملي على حماد بن سلمة في حلقته لكتابة الحديث ولكن خطأه حماد بن سلمة البصري في أحد الأحاديث الشريفة وهو قول الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) : " ما أحد من أصحابي إلا وقد أخذت عليه ليس أبا الدرداء " فقالها سيبويه ( ليس أبو الدرداء )  فإتجه إلى دراسة النحو حتى أنه تحدى نفسه وقال له لأطلبن علما لا تلحنني فيه أبدا حيث تتلمذ على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي .

لقب سيبويه بهذا الإسم لعدة أقاويل ، أولها : معنى سيبويه في اللغة الفارسية هي رائحة التفاح والثاني أن أمه كانت تراقصه وتقول له سيبويه ، والثالث لكونه شابا نظيفا ذا لون أبيض وتطغو عليه حمرة الوجه التي تشبه التفاح ،  وقيل أيضا ، لأن سيبويه كان يحب رائحة التفاح ، والقول الأخر هو ان هذه الكلمة هي كلمة فارسية مركبة تعني ثلاثين رائحة .. وهي من جزئين ، الاول : ( سي تعني ثلاثين ) والثاني  ( بويه تعني الرائحة ) .

استطاع سيبويه أن يؤلف كتاب سمي بـ ( الكتاب )  وهو دستور اللغة العربية حيث انتهج فيه منهجاً خاصاً جداً ، فقد إحتوى هذا الكتاب على أكثر من تسعمائة وعشرين صفحة قسمه على عدة أقسام وأبواب ، فكتابه يقع في جزئين أما الجزء الأول فكان موضوعه مباحث النحو ، وأما الجزء الآخر فكان مبحثه الممنوع من الصرف والنسب والإضافة والتصغير وكل ما يتعلق بعلم الصرف .

فهذا الكتاب يحتوي على كل ما يتعلق بمباحث علم النحو والصرف ،  بالإضافة إلى المجاز والمعاني وضرورات الشعر ، وتعريب اللغة الأعجمية ومباحث الأصوات العربية ، فيعتبر هذا الكتاب موسوعة حقيقية لمباحث اللغة العربية .

 

النحو قبل سيبويه لم تكن له صورة العلم ذي الابواب والفصول والقواعد العامة ، وانما كان مسائل متفرقة لا تجمعها قاعدة ولا يضمها باب جامع ، وكانت قواعد النحو والصرف ممتزجة بغيرها من مسائل اللغة والادب لتفسير القران الكريم وفهم أشعار العرب ، فاستطاع سيبويه أن يجمع القواعد ويرتبها ، ويعقد أبوابا يجمع فيها أشقاءها من المسائل النحوية فاعتبر بذلك أول عالم كتب ودوّن النحو   بهذه الصورة الكاملة .

ويحق لنا أن نقول دون ادعاء أو مبالغة ان سيبويه كان حجر الأساس في بناء البلاغة العربية ، بما ذكره من موضوعات تدخل في علم المعاني كالحذف والزيادة، والذكر والإضمار، والتقديم والتأخير، والاستفهام والقصر، والفصل والوصل، والمجاز العقلي، والتعريف والتنكير ومقتضى الحال، والقلب . كما تعرض لصور من خروج الكلام على مقتضى الظاهر، ولم يفته أن يتناول أسرار التراكيب وتأليف الكلمات، وصوغ العبارات، وابراز الفرق بين تعبير وآخر، ولم يقتصر إهتمام سيبويه على أواخر الكلمات، و بيان إعرابها و بنائها وإنما تجاوز ذلك إلى نظم الجملة والكلمات .

لم تكن العلوم والفنون في القرن الثاني قد تحددت بعد أو دخلت في دور التنسيق والتصنيف، والتقسيم، ووضع المصطلحات هنا وهناك عنوانا على كل قسم، وتمييزا له عن سائر الأقسام، وإنما كانت العلوم والفنون وقتئذ متداخلة يصب بعضها في بعض ويثري بعضها بعضا، فاللغة، والنحو، والبلاغة كلها كانت بمثابة روافد متعددة تصب في مجري واحد هو أثراء اللغة والمحافظة على سلامتها، وابراز جمالها وسيبويه في كتابه لم يكن متناولاً لفن واحدٍ من هذه الفنون، بل كان متناولاً لها جميعا، ومنظما لها في عقد واحد، فلم يطف بخاطره أو بأذهان المعاصرين له أن يفصلوا بين هذا العلم أو ذاك، أو يضعوا مصطلحا لهذه الفنون أو تلك، ولذلك فان سيبويه في إدراكه لتداخل العلوم قد اهتدى الى ربط النحو بالمعاني، فنفث في النحو روحا مشعة لها جلالها وقيمتها ،  فكثير من العلماء مدح سيبويه بكلمات نلمح فيها الاعجاب العظيم لعمله الرائع الكبير حيث يقول المازني من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي مما أقدم عليه. واذا أردنا آن نستقصي آراء العلماء في ثنائهم على سيبويه واعجابهم بآثاره  لضاق بنا المجال ويكفي أن نذكر أنهم أطلقوا اسم (الكتاب) علما اختصَّ به هذا المصنف دون بقية المصنفات الاخرى فاذا أطلقت كلمة الكتاب فهم أن المراد هو كتاب سيبويه دون غيره بل ان سيبويه نفسه من فرط اعجابه بالكتاب وقيمته أسماه قرآن النحو  .

لاشك أن النحو قد تطور بعد سيبويه فزادت عليه مسائل ودخل عليه تنظيم أفضل و تبويب أقوم وتصنيف أدق لكنه مع ذلك لم يخرج عن المنهج الذي رسمه سيبويه في استنباط الاحكام واستخراج المسائل وتوضيح العلل فالاجيالُ المتعاقبة لم تغير أسسه وقواعده وان غيرت صوره وقوالبه وجعلته فضفاضا يتسع لمختلف النواحي كما نرى في كتاب المقتضب للمبرد و شرح الكافية للرضي .

ولسيبويه قدم سبق مشهود له في قضايا الإدغام ، وهي معالم صوتية في الصميم ، فقد قدم لها بدراسة علم الأصوات ، كما قدم الخليل معجمه بعلم الأصوات ، فالخليل قد ربط بين اللغة والصوت ، وسيبويه قد ربط بين قضايا الصوت نفسها ، لأن الإدغام قضية صوتية ، وقد ظلت محاولة سيبويه في تفسير المجهور و المهموس من الأصوات قانوناً سار عليه جميع من جاء بعده من النحاة والقراء . إلى أن جاءت بحوث المحدثين فصدقت كثيراً مما قاله في هذا الباب.