سعدي الشيرازي وقصيدته الرائية في رثاء بغداد

الأربعاء 14 يونيو 2017 - 11:00 بتوقيت غرينتش
سعدي الشيرازي وقصيدته الرائية في رثاء بغداد

إن اكتشاف شخصية سعدي الأدبية و معرفة مسيرته الكاملة للأثر العربي في أدبه لايتحققان بصورة كلية عند دراسة آثاره الأدبية في اللغة الفارسية فحسب، بل لايتمانِ إلاّ بدراسة نتاجِه العربي المتمثّلِ في أشعاره العربية جنباً الى جنب دراسة نتاجه الفارسي. و لسعدي في لغة الضاد أغراض شتّى كالمدحِ والوعظ والتوحيد والمناجاة والرجاء والرثاء. وله في الغرض الأخير قصيدةٌ فريدةٌ من بين أشعاره العربية، تستحق إفراد مساحةٍ خاصةٍ بها وهي قصيدته الرائية ومرثيته التي قالها في خراب بغداد ومقتل الخليفة وضياع الخلافة العباسية. وقصيدتُه الرائعةُ هذه التي أنشأها بعد خراب بغداد على أيدي التتار، هي من أروع أشعاره العربية، فنياً أوشعرياً أو عاطفياً أو بكل المقاييس. ومن ناحيةٍ أخرى هي أطولُ قصائده، سواء الفارسية منها أو العربية، والتي نرى أنها لم تأخذ حقّها من الذكر والإشارة أو التدقيق والتمحيص.

لقد كان لحادثة سقوط بغداد، ومقتل الخليفة العباسي المعتصم باللّه سنة 656هجرية على يد هولاكو الأثر العميق المؤلم في نفوس المسلمين كافة، كانت كارثة مروعة الهبت مشاعرهم، كما ألهبت مشاعر ونفوس الشعراء، فنظموا مراثي عدة يعبرون فيها عن فزعهم وجزعهم ازاء ذلك الخطب المؤلم.

وقد شارك سعدي شعراء عصره في رثاء بغداد ، وعبر عن مشاعره في قصيدته الرائية حيث يصور فيها مدى حزنه وأسفه على ما حاق بالمسلمين ، فقد بلغت اثنين وتسعين بيتاً:

حبست بجفني المدامع لاتجري           فلما طغى الماء استطال على السكر

نسيم صبا بغداد بعد خرابها               تمنيت لو كانت تمر على قبري

لان هلاك النفس عند أولى النهى         أحب له من عيش منقبض الصدر

زجرت طبيباً جس نبضي مداوياٌ           اليك، فما شكواي من مرض تبري

لزمت اصطباراً حيث كنت مفارقاً               و هذا فراق لايعالج بالصبر

تسائلني عما يجري يوم حصرهم           و ذلك مما ليس يدخل في الحصر

أديرت كوؤس الموت حتي كأنه              رؤس الأسارى ترجحن من السكر

لقد ثكلت ام القرى و لكعبة                   مدامع في الميزاب تسكب في الحجر

نوائب دهر ليتني مت قبلها                        و لم ارعدوان السفيه على الحبر

محابر تبكي بعدهم بسوادها                     و بعض قلوب الناس احلك من حبر

لحى الله من يسدي إليه بنعمة                   وعند هجوم الناس يألف بالغدر

مررت بصم الراسيات اجوبها                  كخنساء من فرط البكاء على صخر

أيا ناصحي بالصبر دعني و زفرتي          أموضع صبر و الكبود على الجمر؟

تهدم شخصي من مداومة البكا                    ويندم الجرف الدوارس بالمخر

وقفت بآبادان ارقب دجلة                          كمثل دم قان يسيل إلى البحر

وفائض دمعي في مصيبة واسط                يزيد على مد البحيرة و الجزر

يصور الشاعر في هذه القصيدة مدى حزنه و أسفه على ما حاق بالخلافة الإسلامية، مما جعله يتمنى الموت لنفسه، صور ما حلّ بالبلاد من نار الفتنة .

هذه القصيدة من أطول قصائده على الإطلاق، فقد بلغت اثنين و تسعين بيتاٌ ، بينما جاءت القصيدة التي نظمها سعدي بالفارسية في رثاء الخليفة في ثمانية و عشرين بيتاً.

أشتمل النص على التعبير الصادق عن مشاعر الحزن الشديد و الجزع المؤلم على ما حلّ بديار المسلمين من كارثة مرعبة، كما تضمن الشكوى من غدر الزمان و تقلّب الأحوال و التحذيرمن تحول الدنيا و انقلابها.

و هنا نلاحظ تفاعل العلاقات الأدبية بين الثقافتين العربية و الفارسية، و هذا الصدق الفني في أبيات هذه القصيدة جعل هذه المشاعر التي احتوتها هذه القصيدة و غيرها من قصائده ، تنفذ من الأعماق إلى الأعماق و يجتاحك شعور غريب و احساس غير عادي ممتزج فيه الحزن بالشجن و المتعة بالألم.

يرثي الشاعر بغداد لما اصابها من القتل و السفك و التخريب والدمار، بغداد التي امضي فيها الشاعر شطراً من عمره ليس بالقصير، و نهل من منبع علومها المقدار الكثير، انه يحاول ان يصبر ويتجلد فحبس الدموع في عينيه، ولكنها عندما زادت تفجرت و جرت منهما، كالسيل الذي يطغي على السد فيكسره فلا يستطيع أن يحبسه خلفه. انه يتمنی ان يكون قد مات قبل أن يري خرابها و دمارها ، فلا يستنشق نسيم خرابها، وإذا مرّ نسيم خرابها يمرّ على قبره.

إذا ما سلّطنا الضوء على قصيدته الرائية هذه وتتبعنا مسار روافدها الثقافية، سنجد أنها تعتمد بشكل عام على الثقافة الإسلامية كما في سائر موروثه الأدبي من شعر ونثر . فقد ازدحمت قصيدته بألفاظ قرآنية و ملامح مستوحاة من الذكر الحكيم وأحاديث نبوية شريفة وألفاظ شرعية مستمدة من الدين الإسلامي الحنيف (الحديث والسنّة)، وكلّ ذلك يعبر عن شخصيته الإسلامية ونزعته المذهبية ونشأته الدينية. فكل من له معرفة  ولو قليلة  بالقرآن الكريم يدرك أن سعدي الشیرازی يدور حول كلام الله سبحانه و تعالى و كلام رسوله الكريم (صلى الله عليه و آله و سلم) و حول كل ما جاء في الشريعة المقدسة السمحاء.

و هذا التنوع في الكتابة هو أكبر دليل على ان سعدي الشيرازي كان واسع الأفق والخيال، موسوعي الثقافة والفكر. كما تجلّت في هذه القصيدة بوضوح شخصية الشاعر في ميلها للواقعية إلاّ في القليل. وأن اهتمامه قد انصب على الجانب التعليمي والأخلاقي في أغلب الأحيان، وهذا يعكس لنا نظرته للحياة وغايته منها. فقد صب أفكاره في قالب شعري مبتكر يتّصف بالحيوية والإنسانية، وبالقوة والرصانة.

فقصيدته الرائية هي الموضوع الوحيد الذي لمسناه في شعر سعدي يفيض عاطفة و يقطرشجناً و ألماً و حزناً، و ظهرت فيه المواطنة و الانتماء على حقيقتها الإنسانية و معناها الإسلامي كأمة واحدة و كجسد واحد

وفي هذا الصدد اعتمد على ثقافتين عريقتين من روافد الثقافة الإسلامية . أولهما : ثقافته الإيرانية المتمثّلة في لغته الأم الفارسية، وثانيهما: ثقافته العربية التي تجلّت في شعره الفارسي والعربي معاً، فمثّل أغراض شعرها وألوان أدبها، واستعان بصور بلاغتها وأساليب تعبيراتها، وتأثّر بأدقّ خصائصها.

فقد لجأ سعدي الشيرازي إلى استخدام موروثه الثقافي العربي الذي اكتسبه من تتلمذه في مدارس البلدان العربية ومراكز تعليمها وتجواله في سائر البلدان وسياحته فيها. وقد تمثّل هذا الموروث العربي فيالأمثال الشعبية والأقوال المأثورة والأبيات الشعرية القديمة بألفاظها وأفكارها وصورها

وموسيقاها، وكلّها ترسبات و تجمعات ثقافية لا تأتّي إلاّ بطول المعاصرة و المعاشرة والتناول المباشر للُغَة بكافة مستوياتها و عناصرها.

لم يكن سعدي في صف الحكماء، بل هو أديب شاعر له درجة من الفضل والتأمل الفكري، والمصدر الأساسي لحكمته هو تجربته و الإلهام.

والحقيقة أنّ شأنه هنا شأن غيره من شعراء إيران من ذوي اللسانين على مدى العصور

الأدبية الإسلامية التي عرفت بالتمازج الشديد والتداخل المستمر بين الثقافتين الإسلاميتين العربية و الفارسية، لا سيما العصر العباسي، عصر الترجمة وعصر البرامكة و عصر أصحاب الألسن المتعددة، و من بينها العربية و الفارسية و هكذا نجد أنّ غايات سعدي من الشعر كثيرة، وهو جدير بلقب ( شاعر الانسانية ) فقد عبر عن الإنسان بكل ما يحمل من متناقضات، وجرّب الحياة وعمر فيها طويلاً، و راح يسجل لنا

تجربة الأعوام الطويلة، وقد تاه في دروب الحب و الهوى، كما جلس يلقن الملوك و السلاطين دروساً في الحكم والحياة، و رحل تاركاً لنا كنزاً هائلاً بين غزل ومديح ومواعظ وحكايات راجت واشتهرت على مدى التاريخ، وبالنهاية ترك لأخيه الإنسان رسالته الإنسانية، فحواها عصارة تجاربه ... رحل هذا الشاعر الكبير عن هذه الدنيا في شيراز عام 691 هجرية وقد جاوز المائة من عمره ..