وفي إحدى ليالي شهر رمضان لعام أربعين للهجرة، وهي ليلة التاسع عشر منه جاءت ابنته أم كلثوم وقدمت إليه عند إفطاره طبقاً فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح خشن ، فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره ، فلما نظر إليه وتأمله حرّك رأسه وبكى بكاءً شديداً عالياً، وقال: (( يا بنية ما ظننت أنّ بنتاً تسوء أباها كما قد أسأتِ أنت إليّ )) ، قالت: وماذا يا أباه ؟ قال: (( يا بنيّة أتقدمين إلى أبيك إدامين في طبقٍ واحدٍ ؟ أتريدين أن يطول وقوفي غداً بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة أنا أريد أن أتّبع أخي وابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قدّم إليه إدامان في طبق واحد إلى أن قبضه الله ، يا بنية ما من رجل طاب مطعمه ومشربه وملبسه إلاّ طال وقوفه بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة ، يا بنية والله لا آكل شيئاً حتى ترفعي أحد الإدامين )) ، فلما رفعته تقدم إلى الطعام فأكل قرصاً واحداً بالملح الخشن ، ثم حمد الله وأثنى عليه وقام إلى صلاته فصلى ولم يزل راكعاً وساجداً ومتضرعاً إلى الله سبحانه ، ويكثر الدخول والخروج وهو ينظر إلى السماء وهو قلق يتململ، ثم قرأ سورة (يس) حتى ختمها، ثم رقد هنيئة وانتبه مرعوباً، ونهض قائماً وهو يقول: (( اللهم بارك لنا في لقائك )) ويكثر من قول: (( لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم )) وكان (عليه السلام) قد رأى في هذه الليلة رؤيا حدّثت بها ابنته أم كلثوم حيث قال لأولاده: (( إني رأيت الساعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في منامي وهو يقول لي: يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضب شيبتك من دم رأسك ، وأنا والله مشتاق إليك وانك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان)) .
قال فلما سمعوا كلامه ضجّوا بالبكاء فأقسم عليهم بالسكوت , ثم أقبل يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر ثم صلى حتى ذهب بعض الليل , ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثم يخرج ساعة بعد ساعة يقلب طرفه في السماء وهو يقول: (( والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها )).
الجريمة .. والفوز بالشهادة:
وما إن لاح وقت الأذان حتى توضأ ونزل إلى الدار وكان في الدار أوز أهدي إلى الحسين (عليه السلام) ، فلما نزل خرجن وراءه ، ورفرفن وصحن في وجهه، وكان قبل تلك الليلة لم يصحن فقال (عليه السلام): (( لا إله إلاّ الله صوارخ تتبعها نوائح )) ,فلما وصل إلى الباب وعالجه ليفتحه تعلق الباب بمئزره حتى سقط فأخذه وشده وهو يقول:
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا * * * ولا تجزع من الموت إذا حلّ بناديكا
ولا تغتر بالدهر وان كان يواتيكا * * * كما أضحكك الدهر كذاك الدهر يبكيكا
ثم قال: (( أللهم بارك لنا في الموت ، أللهم بارك لي في لقائك)) , وسار أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى دخل المسجد، والقناديل قد خمد ضوؤها، فصلى في المسجد وحده , وكان في المسجد ثلاثة رجال أحدهم اللعين ابن ملجم قاتل الإمام أما الآخران فهما شبيب بن بحيرة ووردان بن مجالد ، فلما أذّن (عليه السلام) ونزل من المئذنة جعل يسبح الله ويقدسه ويكبره واتجه إلى محرابه وقام يصلي فتحرك إذ ذاك ابن ملجم وقف بإزاء الاسطوانة التي كان الإمام (عليه السلام) يصلي عليها، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه ، فعند ذلك أخذ السيف، ثم ضربه على رأسه الشريف ، فوقع الإمام (عليه السلام) على وجهه ولم يتأوه بل قال: (( بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ))، ثم صاح وقال: (( قتلني ابن ملجم ، قتلني ابن اليهودية فزت ورب الكعبة ، فزت ورب الكعبة )) .
وأحاط الناس بأمير المؤمنين (عليه السلام) في محرابه وهو يشدّ الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها.
ثم تلا قوله تعالى: ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) طه / ٥٥.
يرأف بقاتله:
ثم إن بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) قبضوا على ابن ملجم وساقوه إلى موضع للإمام فقال له الحسن (عليه السلام): (( هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك ))، ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينية ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلق في عنقه ، فقال له بضعف وانكسار وصوت رأفة ورحمة: (( يا هذا لقد جئت عظيماً وخطباً جسيماً أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء )) ، ثم التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: (( إرفق يا ولدي بأسيرك وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه ، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه ، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً )) ، فقال له الحسن (عليه السلام): (( يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وأفجعنا فيك وأنت تأمرنا بالرفق به ؟! )) فقال له: (( نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلاّ كرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته ، بحقي عليك فأطعمه يا بني مما تأكله ، واسقه مما تشرب ، ولا تقيد له قدماً ، ولا تغل له يداً ، فإن أنامتّ فاقتص منه بأن تقتله وتضربه ضربة واحدة ، ولا تمثل بالرجل فإني سمعت جدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور ، وإن عشت فأنا أولى بالعفو عنه ، وأنا أعلم بما أفعل به ، فإن عفوت فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلاّ عفواً وكرماً )).
الوصية الأخيرة:
(( أوصيكما بتقوى الله وان لا تبغيا الدنيا وان بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للآخرة وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً , أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم ، فإني سمعت جدّ كما (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام , الله الله في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا في حضرتكم ، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم ، ما زال يوصي بهم حتى ظننا انه سيورثهم والله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم ، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم ، والله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم ، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله ، وعليكم بالتواصل والتبادل ، وإياكم والتدابر والتقاطع ، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم أشراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم )).