العلاقات بين الادب العربي والفارسي (سعدي الشيرازي) نموذجاً

الإثنين 8 مايو 2017 - 07:26 بتوقيت غرينتش
العلاقات بين الادب العربي والفارسي (سعدي الشيرازي) نموذجاً

الشاعر الفارسي الكبير سعدي الشيرازي، الذي عاش في القرن السابع الهجري، ولد في شيراز، ودرس في المدرسة النظامية ببغداد، وعاصر محنة مهاجمة الغزو المغولي للعالم الاسلامي، فعبر عن مشاعره تجاه سقوط بغداد ومقتل الخليفة العباسي باللغتين العربية والفارسية.

لقد أثرى الشاعر الساحة الأدبية، وبالذات مجال الأدب الاسلامي والادب المقارن، فكتب عن شعره وأدبه وفنه العديد من النقاد والأدباء والدارسين.. كتب عنه الكثير في الأدب الفارسي، ودرسه عدد لا بأس به من المستشرقين وترجمت أعماله الي اللغات الأوروبية الحديثة، وبالذات الى الفرنسية والانجليزية.. أما في الادب العربي، فقد دارت حول شعره العديد من الدراسات المتخصصة في مجال النقد الادبي والأدب المقارن. هذا الى جانب ما ورد له من ذكر في المصادر العامة التي تعني بتاريخ الأدب ومجالاته الانسانية.. وقد شبهه بعض المهتمين بأبي الطيب المتنبي.

هو مشرف الدين بن مصلح الدين عبدالله المعروف بـ (السعدي الشيرازي)  ولد في مدينة شيراز وسط ايران حوالي سنة 605 هجرية انتقل سعدي عند موت أبيه إلى رعاية حاكم فارس الأتابك سعد بن زنكي وهذا الحاكم أرسله إلي المدرسة النظامية في بغداد لمتابعة دروسه واستيفاء تحصيله وقد وقع السعدي في بغداد تحت تأثير الشيخ الصوفي شهاب الدين السهروردي وأخذ ايضاً الفضل والعلم من شمس الدين أبي الفرج بن الجوزي.

شهد الشاعر سعدي الشيرازي هجمة المغول علي العالم الاسلامي فعبر عن مشاعره تجاه سقوط بغداد ومقتل الخليفة العباسي في شعره وبعد أن غادر بغداد قاصداً الترحال بين اقطار العالم الإسلامي. وفي عهد الأتابك السلغري عاد إلى شيراز مسقط رأسه.

يعتبر سعدي الشيرازي شاعراً من كبار الشعراء الايرانيين ورائداً في الشعر التعليمي الأخلاقي وصوفياً ينظم الغزل الصوفي وتروى عنه كلمات الاعجاز في باب الحكمة والموعظة وإيراد الحكَم و الأمثال، فاق بالشعر الفارسي أقرانه وبالغ في غزلياته نهاية حدود اللطف والجمال، فصاغ أدقّ المعاني في الالفاظ البسيطة والتعابير الفصيحة و البليغة.

له إنتاج ضخم من الشعر و النثر و له كتابان شهيران كتابه الاول يعرف بـ « بوستان » نظمه سنة 655 هجرية وكتاب « كلستان » نظمه سنة 656 هجرية. و له ست رسائل نثرية: المجالس الخمسة، ونصيحة الملوك، ورسالة في العقل و العشق، والتقارير الثلاثة. وله قصائد فارسية وعربية وملمعات وترجيعات وثلاث مجموعات من الغزليات الصوفية هي الطيبات و البدائع و الخواتيم.

جاء شعر سعدي الشيرازي ناطقاً بلسان الحكمة، حافلاً بتجارب الانسان في كل زمان ومكان، ولهذا جاءت منزلته عالية في عيون الذين درسوه سواء في الأدب الفارسي أو العربي أو حتى في الآداب العالمية.. استطاع شاعرنا الشيرازي أن يعبر عن أفكاره التي عرضها وعبَّر عنها في صور عديدة يغلب عليها السهل الممتنع، مع امتداد تأثيره الى آفاق واسعة، تجاوزت المحيطين العربي والفارسي الى الآداب الغربية، اذ كان أول أديب ايراني تترجم أعماله الى اللغات الاوروبية.. كان شاعراً صادق التعبير، رقيق الاحساس تفرد عن غيره من سائر الشعراء بقوة البساطة أو البساطة الممتنعة التي وصفها احدهم بما يشبه الخط المنحني في المصطلح الهندسي. أي أن عامل المرونة وعدم ظهور التحجر والتصلب والادعاء والقسوة والتصادم مع الآخرين بصورة عمودية تؤدي الى العداء والنفور، قد جاءت أي تلك المرونة، واضحة في نسيجه الشعري.. وهذه ميزة حميدة تضاف الى ابداعاته العديدة .  

يعدُّ الأدب الاسلامي، أو ادب الشعوب الاسلامية، من أغنى الآداب العالمية نظراً لما يزخر به من نتاج أدبي رفيع المستوى شعراً ونثراً. ونظراً لأن الأمة الاسلامية تلتقي في أهدافها وحضاراتها وثقافاتها وقيمها الاخلاقية، فان عوامل مشتركة تجمع بين أدبائها وشعرائها ومفكريها، وهذا ينعكس بدوره في العلاقات الادبية وتفاعلها في ظواهر التأثير المتبادل بين آداب تلك الشعوب. وكم يسعدنا في هذه الحلقة أن نقف على بعض من تلك العلاقات والروابط الادبية في نتاج شاعر انساني كبير، وهو سعدي الشيرازي، ندرس من خلال شعره وأدبه كيف تتلاقح الأفكار عنده وتتنامى في جو وأفق واسع، يجوب الأقطار الاسلامية، حيث لا حدود فاصلة، ولا عوائق مانعة، بل نراه يحتل مكانة رفيعة على المستويين المحلي والعالمي. هذا بدوره أثرى الساحة الأدبية وبالذات في مجال الأدب الاسلامي المقارن، فقد كان للثقافة العربية أثراً واضحاً في نتاجه الأدبي، كما سوف نرى .

ترك سعدي الشيرازي ديواناً صغيراً بالعربية؛ قوامه 35 قصيدة ، ومقطوعة غزلية في 374 بيتاً، وهذا عدا عما في دواوينه الشعرية الفارسية، من شعر عربي. كما جمع في بعض أشعاره بين الفارسية والعربية. ومن قصائده العربية، رثاء لبغداد والتى عاصر سقوطها بيد المغول سنة 656 هـ، من أطول قصائده على الاطلاق، فقد بلغت اثنين وتسعين بيتاً، ومطلعها :

حبَستُ بجَفنَيَ المدامِعَ لا تجري      فَلَمّا طَغى الماءُ استطالَ على السكرِ

نسيمُ صبا بغدادَ بعد خرابها          تمَنَّيتُ لو كانت تَمُرُّ على قبري

وهنا نلحظ تفاعل العلاقات الأدبية بين الثقافتين العربية والفارسية، ومدى أثر الثقافة العربية في شعره، فجملة «طغى الماء» في مطلع القصيدة العربية تعبير قرآني، ومثل هذا التأثر كثير في شعره، شاع وانتشر وامتدّ في سائر قصائده، سواء كانت بالعربية أم بالفارسية، وهذا يعكس ما استقر في الوجدان من عمق التجربة؛ فقد جاءت قصائده اكثر شفافية، وما ذلك الا لأنها وليدة الصدق. يكفي أن تسمع القصيدة فتغيب في اجوائها، وتبحر في تلك الفضاءات الرحبة التي تبثُّها في نفسك كلماتها، حتى لكأنك تعيش نفس التجربة التي عاشها. وهكذا هي القصائد العظيمة لابد أن تترك في النفس أثراً بعيداً جديداً لا ينسى .

ومما جاء في كتابه الشهير ( الگلستان ) ابياتا ً بالعربية في مديح النبي محمد ( صلى اله عليه واله وسلم ) حيث قال :   

بلغ العلا بكماله  كشف الدجى بجماله

حسنت جميع خصاله  صلوا عليه وآله

 

كما نُسبت إليه هذه الأبيات التالية نظمها باللغة العربية :

قال لي المحبوبُ لَّما زرتُهُ  مَنْ ببابي قلتُ بالباب أنَا

قال لي أخطأتَ تعريفَ الهوى  حينما فرَّقتَ فيه بَيْنَنَا

ومضى عامٌ فلمَّا جئتُهُ  أطرُقُ البابَ عليه مُوهِنَا

قال لي مَنْ أنت قلتُ انْظُرْ فما  ثَمَ إلاَّ أنت بالباب هُنَا

قال لي أحسنتَ تعريفَ الهوى  وَعَرَفْتَ الحُبَّ فادْخُلْ يا أنَا

 

أشار عددٌ من الناقدين والباحثين إلى أن شعر سعدي الشيرازي كان شديد التأثر بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف بوصفهما مؤثران عربيان أدبيان، أما المؤثرات الفارسية في شعره فيمكن ملاحظتها في: الأوزان والخصائص العروضية الفارسية إذ استخدم بعضاً منها في شعره العربي، الأمر الذي اعتبره البعض تجدد موسيقي فيما اعتبره آخرون مخالفةً لقواعد العروض العربية؛ المزاوجة بين الصور والأخيلة العربية ونظائرها الفارسية نظراً لتأثره بصور أدبه الفارسي وأخيلة بني جلدته من كبار الشعراء ولمخالطته العرب وتأثره بأفصح الكتب العربية، ألا وهو القرآن الكريم .

تظهر أهمية شعره في التاثير الذي تركه سعدي منذ القرن الثالث عشر الميلادي في تاريخ الأدب الفارسي اذ يعد عنصراً مهماً في مجال الأدب واثراء اللغة، بل وفي الحفاظ عليها. انه شاعر ترك اثره الواضح في اساليب اللغة واستعمالاتها وفي أمثالها وحكمها. كانت أقواله تتردد علي أفواه العديد من أبناء المجتمع على اختلاف وتنوع طبقاتهم، حتى ان المهتمين بفن الخط والتشكيل الفني والرسم في ايران عبروا عن احاسيسهم ومشاعرهم بأشعاره وأقواله، حيث قاموا بنسخ قصائده وتزيينها بالفن التشكيلي لمحبي الفن والأدب في لوحات معبرة .

قدمنا في هذه العجالة دراسة موجزة عن جانب من جوانب تفاعل العلاقات الأدبية واللغوية بين الثقافتين العربية والفارسية، وكان محور الدراسة يدور حول شخصية بارزة عاشت في القرن السابع الهجري وتفاعلت مع أحداث العصر آنذاك. أنها شخصية الشاعر الانساني الكبير سعدي الشيرازي، الذي أبدع في فنون عدة، أبدع في الوصف والحكم والغزل والحث على مكارم الأخلاق. ونظم شعراً بالعربية والفارسية، فأثرى الساحة الأدبية ، و بالذات في مجال الأدب المقارن، واستطاع أن يبحر في آفاق واسعة تجاوزت المحيطين العربي والفارسي الى الآداب العالمية. هذا ولم يكن بوسع هذه الحلقة الاحاطة بكل الجوانب والخصائص المميزة لشعره نظراً لغزارة نتائجه الأدبي وتعدد الفنون التي طرقها .

 

 

مزيد من الصور