لم تكن القضية هكذا، بل كانت عبارة عن جهادٍ طويلٍ ومواجهة منظّمة تحوي الكثير من الأفراد وكان لموسى بن جعفر أتباعٌ في جميع أرجاء العالم الإسلامي يحبّونه. وفي ذلك الزمان نجد ابن عمّه السيّئ الذكر، والّذي كان من الأشخاص التابعين للجهاز الحاكم، يقول لهارون بشأن موسى بن جعفر عليه السلام هذه الجملة: "خليفتان يجيء إليهما الخراج"، كأنه يقول لهارون أنّه لا تتصوّر أنّك الخليفة الوحيد على هذه الأرض وداخل المجتمع الإسلامي والوحيد الّذي تُجبى إليه الخراج. بل يوجد خليفتان أحدهما أنت والآخر موسى بن جعفر عليه السلام. فكما أنّ الناس يعطونك الخِراج فهم أيضاً يعطون موسى بن جعفر عليه السلام. وقد أراد بهذا الخبث السعاية في الإمام، ولكنه كان يذكر الواقع. لقد كان لموسى بن جعفر عليه السلام روابط وعلاقات ممتدّة عبر جميع مناطق العالم الإسلامي، غاية الأمر أنّ هذه العلاقات لم تصل إلى حيث يتمكّن موسى بن جعفر عليه السلام من القيام بحركةٍ عسكريةٍ علنيّة.
لقد كان حال موسى بن جعفر عليه السلام هكذا إلى أن وصل الأمر إلى هارون الرشيد. فكان هذا في الوقت الّذي لم يعد في المجتمع الإسلامي أيّة معارضة للجهاز الحاكم، وكان هارون الرشيد يحكم فارغ البال تقريباً، لكنّ وضع حياة موسى بن جعفر عليه السلام وانتشار دعوته لم يجعل مواجهة أمره من قبلهم سهلاً. وقد كان هارون سياسياً محنّكاً ومن أعماله أنّه توجّه وذهب إلى مكّة حيث يحتمل الطبري - المؤرّخ المعروف، أو يذكر ذلك على نحو اليقين - أنّ هارون الرشيد قد عزم على الحج وكان هدفه في الخفاء أن يذهب إلى المدينة، ويطّلع على أوضاع موسى بن جعفر عليه السلام عن قرب. وأراد أن يرى هذه الشخصية الّتي يجري كلّ هذا الحديث عنها، ولها كلّ هؤلاء الأتباع حتّى في بغداد. وهل ينبغي أن يخاف منه، فجاء والتقى بموسى بن جعفر عليه السلام وكان هذا اللقاء مهمّاً جداً وحسّاساً للغاية. أولى هذه اللقاءات كان في المسجد الحرام حينما التقى كلّ من موسى بن جعفر عليه السلام وهارون خفاءً وجرت بينهما محادثات شديدة وحادّة، وحطّم موسى بن جعفر عليه السلام هيبة هذا الخليفة في محضر الموجودين، وهناك لم يكن هارون ملتفتاً إلى أنّ هذا هو موسى بن جعفر عليه السلام .
بعدها حينما يأتي إلى المدينة يعقد عدّة جلسات مع موسى بن جعفر عليه السلام، وكانت هذه اللقاءات مهمّة. وإنّني أشير بهذا المقدار عسى أن يتابع أهل الدراسات والتحقيق والمهتمّين بهذه القضايا، فهذه بعض الرشحات وليتابعوا هم هذه القضية. منها هنا، أنّ هارون الرشيد وفي هذه اللقاءات قد استعمل كلّ ما يمكن أن يستعمله من أجل السيطرة على هذا الإنسان المخالف والمجاهد الحقيقي من التهديد والرشوة والحيلة.
إنّ هارون كان يعامل الإمام الكاظم عليه السلام معاملة جيّدة وحسنة وذلك خلال المرحلة الأولى من تصدّيه للحكم. والقصّة الّتي ينقلها المأمون حول الإمام الكاظم عليه السلام معروفة وملخّصها أنّ الإمام عليه السلام كان يمتطي دابّة وجاء ودخل إلى المكان الّذي كان يجلس فيه هارون وأراد الإمام عليه السلام أن يترجّل ولكن هارون لم يرضَ بذلك وأقسم عليه أن يبقى راكباً ويأتي بدابّته إلى بساطه، وعندما جاء الإمام عليه السلام راكباً على بساط الخليفة احترمه هارون وبقيا مدّة يتبادلان الحديث.
فعندما عزم الإمام عليه السلام الرحيل طلب هارون مني (أي من المأمون) ومن الأمين أن نأخذ بركاب أبي الحسن، إلى آخر القصّة. والشيء الملفت في هذه القصّة هو ما نقله المأمون عن أنّ أبيه هارون أعطى جميع الحاضرين في المجلس 5 آلاف دينار و 10 آلاف دينار (أو درهم) كهدية وجائزة، ولكن أعطى لموسى بن جعفر عليه السلام 200 دينار، علماً بأنّه عندما كان الخليفة يسأل عن وضع الإمام عليه السلام كان الإمام عليه السلام يجيبه مبيّناً له المشكلات والأوضاع المعيشية السيّئة وكثرة العيال.
فهذا الكلام من الإمام عليه السلام يحمل في طيّاته معنى دقيق، فأنا وبقيّة الّذين عاشوا تجربة التقيّة في زمان مواجهة الشاه نستطيع أن نفهم وندرك لماذا ذكر الإمام عليه السلام ولمثل هارون وضعه السيئ وعدم كفاية المعيشة، فهذا الكلام ليس فيه تذلّلاً.
الكثير منكم وفي عهد القمع والظلم قد فعلتم مثل ما فعل الإمام عليه السلام، لأنّ الإنسان ومن خلال هذا الكلام يستطيع أن يبعد نظر العدوّ عن أعماله ونشاطاته. ومن الطبيعيّ أنّ هارون وبعد استماعه إلى مثل هذا الكلام كان ينبغي أن يعطي الإمام مبالغ طائلة 50 ألف دينار (أو درهم) مثلاً. ولكنّه رغم هذا كلّه لم يعطه أكثر من 200 دينار! يقول المأمون سألت أبي عن سبب إعطائه القليل فأجابني إذا أعطيته المبلغ الّذي في ذمّتي لخرج، ولقام مئة ألف فارس من الشيعة بعد فترة وجيزة ضدّي. فهذا كان استنتاج وفهم هارون وبرأيي إنّ هارون كان صائباً في فهمه. هنا يتصوّر البعض أنّه قد تمّ السعاية والوشاية بالإمام عليه السلام لكن حقيقة القضية عكس ذلك وهو ما قلناه. لأنه لو كان الإمام عليه السلام يملك من الأموال الكافية في زمان جهاده ونضاله ضدّ هارون لاستطاع استقطاب الكثيرين ليحاربوا إلى جانبه. وهذا الوضع لاحظناه في زمان أبناء الأئمّة عليهم السلام وبالتأكيد أنّ الأئمّة لو كانوا يملكون المال الكافي لاستطاعوا جمع عدد أكبر من الناس حولهم، وعلى هذا نجد أنّ عهد الإمام الكاظم عليه السلام كان عهداً وصل فيه الجهاد والكفاح إلى أوجه حتّى انتهى باعتقال الإمام عليه السلام وسجنه.
رُوي أنّه قيل لموسى بن جعفر عليه السلام: "أنتم يا بني هاشم قد حُرمتم من فدك، وقد أخذوا فدك من آل علي، وأنا أريد أن أرجعها إليكم، قولوا لي أين هي فدك وما هي حدودها حتّى أرجعها إليكم". وكان واضحاً أنّ هذا مجرّد خداع، من أجل أن يظهر كأنّه قد أرجع حقّ آل محمد الضائع، وليُعرف بذلك بين الناس. فيقول له الإمام: "حسناً؛ إذا أنت أردت أن ترجع لنا فدك، فأنا سأعيّن لك حدودها". وهكذا تقرّر أن يحدّد له فدك، وما ذكره الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في تعيين فدك كان عبارة عن كلّ العالم الإسلامي؛ وفدك هي هذه. أي أنّك إذا كنت تتصوّر أنّ نزاعنا معك هو حول بستان ما وعدّة أشجارٍ من النخيل فهذه سذاجة وليست قضيّتنا هنا عبارة عن بستان فدك مع نخيله، بل كانت القضية هي قضية خلافة النبيّ وخلافة الحكومة. غاية الأمر أنّه في ذلك اليوم فإنّ الشيء الّذي كان يُظنّ أنّه سيحرمنا من هذا الحقّ بشكل كامل هو مصادرة فدك، لهذا كنّا نصرّ ونؤكّد على هذه القضية. أمّا اليوم فإنّ الشيء الّذي غصبتنا إيّاه ليس فدك الّتي لم يعد لها قيمة وإنّ ما غصبته هو المجتمع الإسلامي والبلاد الإسلامية. فيذكر موسى بن جعفر أربعة حدودٍ ويقول هذه فدك، فأرجعها إلينا. أي أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يصرّح بدعوى الحاكمية والخلافة في ذلك المجلس.
روي أن هارون الرشيد قال لموسى بن جعفر عليه السلام يوماً: "خُذّ فدكاً حتّى أردّها إليك". امتنع الإمام عليه السلام في البداية ثمّ بعدها قال: "لا آخذها إلا بحدودها". فيقول له بعدها: "حسناً خذها". وعندها من الملفت جدّاً أن الإمام عليه السلام يعيّن له حدودها ويقول: "أمّا الحدّ الأوّل فعدن" ولأنّهما كانا جالسين مثلاً في المدينة أو في بغداد يتحدّثان. إذ قال "عدن" أي نهاية جزيرة العرب، فتغيّر وجه الرشيد، وقال: "تيهاً"، قال: "والحدّ الثاني سمرقند"، فاربدّ وجهه، "والحدّ الثالث إفريقيا" (أي الحدّ الثالث كان تونس) فاسودّ وجهه؛ أي هارون الرشيد وقال: "هيه، عجيب أيّ كلامٍ هذا". قال: "والرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينيا". والآن هي أرمينيا وما يليها من الأنحاء حتى البحر المتوسط. فقال الرشيد: "لم يبقَ شيء، فتحوّل إلى مجلسي". فرد عليه موسى بن جعفر عليه السلام: "قد أعلمتك أنّني إن حدّدتها لن تردّها" فعند ذلك عزم على قتله ...
* من كتاب "إنسان بعمر 250 سنة" للإمام الخامنئي