الشعور بالذنب!
وقد فرّق القرآن الكريم بين الروح والجسد والنفس، وجاءت آياته تتحدث في بساطة بأدق نظريات علم النفس الحديث.. وفي قصه الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك التي قادها رسول الله (ص). يصف القرآن معاناة الشعور بالذنب، ويتحدث عن عذاب الضمير للثلاثة الذين تخلفوا في دقة مذهلة ومعجزة.. الثلاثة هم الصحابي كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وقد تخلفوا رغم الإعلان عن الغزوة والتجهيز لها.. فلما مضت الغزوة أحسوا بالإثم، وقاطعهم أهل المدينة إلى أن نزل فيهم حكم الله، وقد كاد كعب بن مالك يفقد عقله من تأنيب الضمير.. والقرآن الكريم يقول في هذه الأزمة النفسية التي عصفت بالرجال.. (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا...) (التوبة/ 118).
ولو تأملنا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، من الشعور بالذنب والإحساس بالإثم، والرغبة في التفكير بالإضافة إلى الشعور بالدونية، وعذاب الضمير.. لو تأملنا وتصوّرنا ذلك الإنسان المنب، وقد ضاقت عليه الأرض.. ثمّ ضاقت عليه نفسه، وكأنّها تابوت يضغطه داخله.. لوجدنا أنّها أروع صورة رسمت بدقة للإحساس بالذنب كما تصوّرها أحدث كتابات علم النفس.
غريزة حبّ البقاء!
وفي سورة "الكهف" تصوّر الآية مشهد أهل الكهف، وقد تعاقبت عليهم السنون، فتحوّلوا إلى صورة تفزع القلب، وتروع النفس فتقول (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) (الكهف/ 18)، وتجيء أحدث نظريات علم النفس بعد أربعة عشر قرناً لتقول: إنّ الإنسان حينما يفزع من خطر.. فإنّ غريزة حبّ البقاء تدفعه إلى الفرار بعيداً عن مصدر الخطر.. مجرد إحساسه بالخطر يحشد فيه قوّة غير عادية لا يمكن أن يحصل عليها في حالات الاطمئنان، وتجعله يأخذ نفسه بعيداً بعيداً.. كالذي يقفز من الطابق الثاني إذا ما شعر بأنّ بيته محاصر بالنيران.. وقد ينطلق بعد القفز فاراً مبتعداً عن مكمن الخطر.. ثمّ يتبيّن بعد ذلك أنّه قد أصيب أو لحق به أي ذي.. أو كالذي ينقلب به زورق بالقرب من الشاطئ دون أن يكون على علم بالسباحة، ورغم ذلك فإنّه يناضل بجنون حتى يصل إلى الشاطئ.. فإذا خرج نظر إلى المسافة التي سبحها وهو لا يصدق.. والآية تحدد بدقة حالة غريزة حبّ البقاء حينما تقول.. لوليت منهم فراراً مما يقع عليه بصرك من بشاعة ما فعلته الأيام بالجثث.. إذ لن تستطيع أن تحدد إن كانوا موتى أو أحياء.. فإذا فررت بعيداً.. امتلأت بالرعب بعد ذلك.. وهي آية يزداد إحساس القارئ بعمقها في ضوء علم النفس..
والهرب ساعة الإحساس بالخطر، والفزع المفاجئ ينجلي في الآية التي جاءت في سورة القصص والتي تقول: (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ...) (القصص/ 31). والقرآن الكريم يصف حالة موسى (ع) النفسية.. موسى الذي شاهد ناراً في الليل.. فترك أهله وجاء ملتمساً بعض هذه النار لكي ينتفع بها.. وقد غادر بيت لحم والد زوجته بعد حياة مطمئنة عشر سنوات.. ودخل بزوجته في الصحراء يحاول أن يبدأ معها حياة مستقلة.. ولهذا ورغم ما أودع الله فيه من أسرار النبوة، وقدسية الرسالة إلّا أنّه ما يكاد يرى عصاه تتلوى وتهتز صاعدة هابطة، وهي التي كانت منذ برهة.. جذع شجرة.. طالما توكأ عليه وهش به على غنمه.. وقد تحوّل إلى كائن حيّ.. حتى يفزع فيولي مدبراً.. يهرول بعيداً عن مكان الخطر الذي يخشى منه على نفسه.. لولا نداء ربه (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) وهنا تقفز غريزة حبّ البقاء لتؤكد نفسها فيما صدر عن موسى (ع)..
الغضب:
وموسى (ع) كان ذا شخصية انفعالية سريع الغضب.. وإذا رجعنا إلى طفولته وسلطنا عليها أضواء علم النفس الكاشفة.. فسوف نجد أنّها مشحونة بالتوترات ملأى بالقلق بعيدة عن كلّ ما يوفر الشعور بالأمان لطفل رضيع.. وقد توصّل أحد أطباء الأمراض النفسية للأطفال إلى أنّ الأُم والرضيع يكونان وحدة واحدة من الوجهة النفسية، وإنّ أيّة انفعالات للأُمّ كثيراً ما تنعكس على الرضيع، والأُمّ التي تعاني من القلق أو من الحزن ينصحها طبيب الأطفال بعدم إرضاع طفلها فترة حزنها أو قلقها.. وأُمّ موسى هي التي قلقت أعظم قلق حينما وضعته في الصندوق، وحينما أرسلت أخته تتبع آثاره على الشاطئ.. ثمّ حينما عاد إليها لترضعه، كلّ ذلك جعل موسى (ع).. يثور عند الغضب إلى حدّ يلقي فيه بالألواح.. ويصوّر القرآن الكريم "الغضب" على أنّه من الحالات النفسية التي يسقط الإنسان فيها تحت وطأة قوّة أقوى منه.. يتملك الغضب فيها ضحيته ويوسوس إليه بما يريد. بل يدفعه دفعاً دون أن يملك الغاضب الخروج من حالة الغضب.. وحينما تقرأ الآية الكريمة التي جاءت في "سورة الأعراف" (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (الأعراف/ 150).
وهي صورة قوّية للغضب حينما يستولي على الإنسان.. فإنّ موسى ألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه هارون يجره إليه، ويعنّفه، ويلومه على ما فرط فيه.. أي إنّ الغضب اقتحم موسى وراح يوجهه حيث يريد.. ولعلّ القلق الذي لازم طفولة موسى قد ترك بصماته النفسية على كلّ تصرفاته طوال حياته.. حتى عندما ناصر الذي من شيعته على الذي من عدوه.. يوم إن لكزه فقضى عليه.. ويعود القرآن فيصوّر الغضب بصورة الصوت المسموع الذي يأمر فيطاع.. إذ تقول الآية الكريمة: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ...) (الأعراف/ 154)، وفي بعض القراءات ولما سكن عن موسى الغضب بالنون لا بالتاء.. والسكون ضد الحركة.. أي إنّ الغاضب يصبح مسرحاً لعربدة الغضب وهياجه لا أن يسكن عنه.. وهي من أجمل الصور وأدقها للغضب حينما يستولي على الإنسان..
الكبت والانحراف!
وفي سورة "يوسف" أبدع الصور النفسية لكلّ الحيل اللاشعورية التي يلجأ إليها الإنسان في معاملاته النفسية، والتي يسميها علم النفس آليات عقلية يغالب بها المرء إحباطه، وقلقه، وتوتره الذي يتولد من فشله في محاولاته تحقيق رغباته كلّها أو بعضها..
فأخوة يوسف مثلاً ظلوا ضحايا الكبت الذي يحاولونه لكي يدفنوا رغبتهم في التخلص من يوسف حتى يخلو لهم حبّ أبيهم، ولكنهم كانوا يفشلون في إخفائها وكبتها فكانت تبدو فيما يصدر منهم من أعمال أو كلمات ضد يوسف (ع).. مما جعل يعقوب يتشكك في دعوتهم ليوسف إلى اللعب معهم – فقال لهم: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (يوسف/ 13)، وكان نتيجة هذا الكبت ومعاناته أن انحرفوا بتفكيرهم.. فكلّ ما كان يهمهم أن يحققوه هو أن يحولوا بين يوسف وأبيه.. فاتفقوا اتفاقاً جنائياً على قتله وتلطيخ قميصه بالدم، والادعاء أنّ الذئب أكله، وهم بعيدون عنه لأنّهم ذهبوا يتسابقون وتركوه عند متاعهم.. ويذهب بعض المفسرين إلى أنّ التلفيق كان واضحاً لأنّ القميص لم يكن ممزقاً تمزيق آثار أسنان الذئب- مما جعل يعقوب لا يصدقهم، ولهذا كانت دعوته الدائمة لهم إلى أن يتقصوا آثار أخيهم، ولو أنّه صدقهم في دعواهم لما أصر على أن يقتفوا آثاره..
التبرير والإسقاط!
وقد وقعوا في حالة (التبرير) التي يقول عنها علم النفس وهي الحيلة التي تقي الإنسان من الاعتراف بالأسباب الحقيقية لسلوكه غير المقبول، ويعمد المذنب إلى تفسير سلوكه ليبيّن لنفسه وللناس أنّ لسلوكه هذا أسباباً معقولة.. فهم يقولون: (يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) (يوسف/ 17).
وإذا كان (الإسقاط) هو حيلة يسقط بها المرء نقائصه وعيوبه على الناس والآخرين.. ويهمه بالدرجة الأولى أن يلصقها بمن يظنّ أنّه ينافسه مباشرة.. كالزوج الذي يخون زوجته.. ثمّ يتهمها بالخيانة.. إذا كان هذا هو مفهوم الإسقاط في علم النفس.. فإنّ القرآن الكريم روى ذلك عن أخوة يوسف. حينما دسّ يوسف صاع الملك في متاع أخيه وألقى القبض عليه بتهمة السرقة ليستبقيه دون أن يكشفهم عن شخصيته إذ تقول الآية الكريمة على لسانهم: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (يوسف/ 77).
العمى النفسي!
وحينما عاد الأخوة ليفجعوا والدهم في ابنه الثاني شقيق يوسف، وأحب أولاده إليه بعد يوسف، وقد جددت هذه الصدمة الجديدة أحزانه القديمة على يوسف إذا تقول الآية: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف/ 84)، مع أنّهم نقلوا إليه خبر ابنه الثاني وليس يوسف، وذلك ما يطابق أحدث نظريات علم النفس.. وتبيض عيناه من الحزن.. فلم يعد يبصر فقد انتابته رغبة في العمى.. رغبة قوية سيطرت على إرادته.. فهو لا يريد أن يرى الدنيا وقد خلت من ولديه الحبيبين.. وذلك هو العمى النفسي، ويدرك يوسف (ع)، وهو الذي أوتي علماً وحكمة بنص القرآن إنّ هذا العمى نتيجة لصدمة نفسية، وإنّه يمكن أن يشفى بصدمة مضادة، وتقول الآية على لسانه (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا) (يوسف/ 93)، ولا يختلف اثنان من علماء علم النفس في ذلك ولعلّ أساطين هذا العلم لم يصل أحدهم إلى علاج له مثل هذه البساطة.. إذ يقول يوسف (ع): (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا)، فإذا ما تأكد أبي أنّنا بين الأحياء، وإنّه في الإمكان أن يراني.. فسوف يرتد إليه بصره إذعاناً لرغبته التي سوف تتدفق داخله لرؤيتي.. إنّ رغباتنا هي التي تقودنا إلى حيث نريد..
ثمّ الرمزية التي جاءت في تفسير يوسف للأحلام الثلاثة.. حلم السجين الذي رأى نفسه يعصر خمراً، والآخر الذي رأى أنّه يحمل طعاماً فوق رأسه ويأكل منه الطير.. ثمّ حلم الملك الشديد الرمزية.. إنّ كلّ ذلك يجلّ القرآن الكريم يتفوق في تفسيراته للنوازع والرغبات والسلوك الإنساني.. تفوقاً يجلّ عن المقارنة، ويتنزه عن المنافسة لمجهودات كائناً من كان من البشر في هذا المضمار!!
المصدر: البلاغ