قبل الخوض بهذا الموضوع دعونا نتوقف لكي نوضح ما معنى التعريب او الدخيل او الاعجمي في اللغة ...
التعريب وسيلة من وسائل اتساع اللغة ونموها، فضلاً عن الاشتقاق والنحت وغيرها، وقد سماه أغلب المحدثين الاقتراض وهو ظاهرة من ظواهر التقاء اللغات وتأثير بعضها في بعض ، فاللغة الحية بطبيعتها تتفاعل مع غيرها من اللغات فتعطي وتأخذ، ومن هذا المنطلق فإن وجود الألفاظ المعرّبة في اللغة أمر حتمي مسلم به والتعريب كما يدلّ من اسمه، اقتباس كلمة من لسان أعجمي وإدخالها في اللسان العربي وقد جرى سيبويه على تسميته إعراباً كما سمّى الخفاجي وغيره الكلمات المعرّبة بالدخيل .
إنّ تغيير بعض أصوات الألفاظ الأعجمية عند تعريبها عن طريق حذف ما ليس فيه أصوات العربية أو إلحاق وزن اللفظ بإحدى أوزانها لا يبعد أن يكون تهذيباً له وتشذيباً، وهو أمر لابد منه لأن العربية لغة ذات نظام منسجم متماسك يشد بعضه بعضاً، تجري فيها الألفاظ على نسق خاص في حروفها وأصواتها، وفي مادتها وتركيبها، وفي هيأتها وبنائها وهي تختلف عن سائر اللغات الأخرى.
ولم يخرج المحدثون كذلك عن معنى مصطلح المعرّب الذي جاء به القدامى ولكنهم رَسَموا حدّاً فاصلاً بينه وبين الدّخيل، وهذا ما لم يشر إليه القدامى لأنهم استعملوا المعرّب والدخيل للمعنى نفسه، واللفظ الأعجمي إذا لم يعرب لايمكن أن يطلق عليه مصطلح معرّب بل يسمى حينئذ دخيلاً، أما عندما يُورد المعجميون لفظاً أعجمياً فقد خضع للتعريب، فإنهم يذكرون أصله اللغوي مشفوعاً بمصطلح معرّب، فيقولون فارسي معرّب أو رومي معرّب أو نبطي معرّب، أو قد يسكتون عن بيان أصله في لغات العجم لعدم وقوفهم عليه فيقولون أعجمي معرّب. و خلاصة ذلك: أيما لفظة أعجمية وقعت للعرب فعّربُوها بألسنتهم وحّولوها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظهم، تصبح عربية فتجري عليها القواعد والأحكام نفسها التي تجري على الألفاظ العربية فتلحق علامات الإعراب أخرها إلا أن تُمنع الصرف لعلميتها، وتُعرّف بالألف واللام وتضاف ويضاف إليها، وتثنى وتجمع، وتذّكر وتؤنث، فضلا عن تصرفها وإعمال الاشتقاق في بنيتها .
وقد اقتضت الضرورة المنهجية لهذا الموضوع توضيح مصطلحي (المعرّب والأعجمي) واللذان إن بدا مترادفين في دلالتهما، لكن ثمة فروقات دقيقة بينهما، إذ إن لفظ الأعجمي مشتق من عجم، والعجم الذين ليسوا من العرب كأنهم لم يفهموا عنهم فسمّوهم عجماً، وعلى هذا فإن الأعجمي يشمل ما ليس بعربي من الألفاظ سواء استعمله العرب أم لم يستعملوه، فإذا استعملوه دون تغيير في بنيته وأصواته، فإنه يسمى دخيلاً أو أعجمياً. وكان علماء اللغة القدماء يطلقون لفظة الدخيل على ما دخل اللغة العربية من مفردات اجنبية ، لكن المحدثّين اصطلحوا على ما استعمله الفصحاء في عصور الاحتجاج بالمعرّب .
وقبل الحديث عن أساليب العرب في التعريب لابد للاشارة الى الاسباب التي دعتهم الى التعريب ومنها إقامة الوزن .
يقول القاضي الجرجاني في هذا المجال ( اني اجد العرب تستعمل كثيراً من الفاظ العجم اذا احتاجت اليه لإقامة الوزن ) بالاضافة الى الحاجة لالفاظ جديدة فهناك أشياء لاوجود لها في بلاد العرب سميّت بأسمائها الفارسية بعد تعريبها مثل الاستبرق والديباج والسندس ، واما السبب الآخر هو خفّة وجمالية الألفاظ الفارسية المعرّبة الى العربية مثل النرجس والياسمين والمسك والباذنجان والكوسج والهاون والابريق والرصاص والميزاب واللوبياء والفالوج وغيرها ، فقد قضت هذه الألفاظ لخفتها على نظائرها العربية وهي : الحوجم والعبهر والسمسق والمشموم والفرصاد والحدج والاثط والمهراس .
ومن أساليب علماء اللغة العربية في التعريب بعد ان أدركوا ان التعريب أفضل من الترجمة اذ لايوجد لفظة كامل دلالتها على كتفها فاللفظة يبيّن معناها بالقرينة حسب السياق والموضوع وتطور الدلالة فهي على الشكل التالي :
أولا : تغير حروف اللفظ الدخيل ، وذلك بنقص بعض الحروف أو زيادتها ، كما في تغير كلمات مثل برنامه الى برنامج وبنفشه الى بنفسج .
وقد يكون ذلك بإبدال الحرف الفارسي بحرف عربي قريب منه مثل پالودة الى فالوذج او پرند الى فرند ومثل شَكَر الى سُكر او شلوار الى سروال او كاووس الى قابوس .
ثانياً تغير الوزن والبناء حتى يوافق أوزان العربية ويناسب أبنيتها فيزيدون في حروفه او ينقصون او يغيرون مُدُودَه وحركاته حتى تتم الموافقة ويراعون في ذلك سنن العربية الصوتية كمنع الابتداء بالساكن او الوقوف على متحرك او توالي ساكنيين فقد عدلّوا مثل ( نشاسته ) الى ( نشاء ) و ( كليد ) الى ( إقليد ) .
لم تكتفي اللغة العربية بتعديل الاوزان التي اقتبستها بل اشتقت منها افعالاً وصفات مثل ما فعلت مع الكلمات الفارسية التي عربتها .. ونذكرها على سبيل المثال لا الحصر
1 / دوّن ، من الديوان وهي فارسية معربة .
2 / تزندق من زنديق ، وهي فارسية معربة .
3 / زركش ، أي طلي بالذهب وهي فارسية .
4 / كهرب من الكهرباء ، وهي فارسية معربة .
5 / سختيت / من السخت ، وهي فارسية بمعنى الشدّة .
معظم المفردات والكلمات الاجنبية التي دخلت اللغة العربية في الجاهلية والاسلام وعصر بني أمية وبني العباس قد انتقل اليها من الفارسية .
ولم تمضي على امتزاج اللغتين في العصر العباسي فترة قصيرة حتى كان من الفرس كما كان من العرب فحول في الشعر والادب والرواية والنقد والبيان والفصاحة والبلاغة العربية ، وكأنهم ارتضعوا لُبانَها ، وتوارثوا صناعة القول فيها ، فكان منهم كبار الشعراء والكتاب والوزراء ورؤساء الدواووين واللغوين البارعون .
ونتج عن ذلك ما زخرت به المكتبات العربية فيما بعد من تدوين وتاليف في علوم اللغة والمعاجم الضخمة التي خدمة الثقافتين العربية والفارسية .
في مجال تعريب الاساليب وتأثير اللغة الفارسية في أساليب شعراء العربية وأخيلتهم ، فقد تناوله بالبحث جماعة من المحققين والتراثيين وأدلوا بدلوهم فيه إذ لم يقتصر احتكاك اللغة العربية باللغات الاجنبية على انتقال مفردات أجنبية ، بل كان من نتائجه كذلك أن انتقل اليها بعض اساليب من هذه اللغات .
ودخول الاساليب الفارسية في الشعر العربي قديم يتصل بالعهد الجاهلي وربما وجد له شواهد في شعر (عدي بن زيد العبادي ) الذي تربى في بلاد الاكاسرة ، وله شعر كثير مملوء بالكلمات الفارسية وهذا ينطبق ايضا في شعر ( الأعشي ) وغيره من الشعراء الذين خالطوا الفرس وتأثروا بثقافتهم .
ولكن هذا النوع من التعريب على قدمه لم ينشط الا في العهد الإسلامي ، منذ حمل راية الكتابة فيه (عبد الحميد الكاتب) ثم تكاثر ونما في العصر العباسي على يد عبد الله بن المقفع ومن تابعه من الكتّاب .