لعب علماء اللغة والادب الفرس دوراً مهماً في إغناء اللغة العربية والادب العربي وذلك لشغفهم بالعلوم والثقافة الاسلامية شغفاً شديداً حيث لانجد بين الشعوب الاسلامية شعباً يضاهيهم في ذلك وقد بذلوا في سبيل ذلك جهداً كبيراً منقطع النظير في إشاعة الدين الاسلامي ونشره ...
تسنّى للغة العربيّة قبل الاسلام أنْ تعرف شيئًا غير قليل من المفردات التي تسرّبت إليها من الفارسيّة، وورد الكثير منها بألفاظها الفارسيّة في عدد كثير من الأشعار عند شعراء الجاهليّة بدوًا وحضرًا.
أمّا بعد الإسلام فيمكننا القول إنَّ اللغة الفارسيّة تطورت باعتناق الإيرانيين الدين الإسلام الحنيف متأثّرة بلغة القرآن الكريم، وكُتبت بالخطّ العربي، وإذا كان الإسلام قد حرَّر اهل بلاد فارس من الحكومات المستبدة، ففي المقابل فإنَّ اهل فارس قد قدّموا خدمات جليلة إلى الإسلام، فقد تفتّحت العبقريّة الإيرانيّة خلال المرحلة الإسلاميّة في مختلف الميادين العلميّة والأدبيّة واللغوية، والفلسفيّة وعلم الرياضيّات والطبّ والفلك والعلوم الدينيّة، وإذا كان علماء بلاد فارس قد ألّفوا كتبهم باللغة العربيّة، فقد طعّموها بلغتهم، وأنتجوا باللغة المطعّمة هذه ودوّنوا بها كتبهم في المجالات المختلفة، وهنالك عدد لا يُحصى عدُّه من الإيرانييّن ممن أبدعوا وبرعوا وكتبوا باللغة العربيّة علمًا وشعرًا ونثرًا وألّفوا في علوم اللغة العربيّة كالصرف والنحو والبلاغة وغيرها.
أمّا في الأدب فقد تبادل الأدبان العربي والفارسي المواضيع والأساليب، وأعطت الفارسيّة الأدب العربي عمقاً بالمعنى وجمال التصوير وعمق الحكمة واتساع أفق الرؤيا ، وبالمقابل فقد أعطت العربيّة الفارسيّة علم العروض والبديع .. وغيرها من فنون الادب والشعر .
والجدير ذكره أنَّ تيار الترجمة من الفارسيّة كان من أقوى التيارات التي رفدت الثقافة
العربيّة الإسلاميّة، ولهذا أسباب كثيرة أبرزها ذلك النفوذ السياسي الذي كان للفرس في الدولة العبّاسيّة، والذي تبعه امتزاج في الجنس واللغة والثقافة والحياة الاجتماعيّة بين العرب والفرس لم يتهيّأ له أنْ يتمّ بين العرب وأمّة أخرى من الأمم التي دخلت في دين الله.
يبقى الدور الأهمّ الذي قام به الفرس، وما اتّفق عليه الباحثون والمؤرّخون، هو الدور الذي أدّوه في نجاح الثورة التي أسقطت الدولة الأمويّة، وأدَّت إلى قيام دولة بني العبّاس وكان لا بدّ لهؤلاء من أنْ يشاركوا في بناء الدولة التي وضعوا أساسها، وأظهروها إلى الوجود، وطبيعي أنْ يُسهِموا إلى حدّ كبير في وضع الخطط، والمبادئ التي ستنتهجها، وأنْ يضعوا الصبغة الفارسيّة على كثير من مؤسّساتها الإداريّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وساعدهم على ذلك نقل عاصمة الخلافة إلى بغداد القريبة من بلاد فارس، وفي هذه الفترة كان كثير من الفرس يتولّى مناصب قياديّة في جيش الدولة العباسية ، وكان أكثر وزراء هذه الدولة من الفرس، وكذلك استأثر من كان منهم يجيد العربيّة والبهلويّة بمنصب الكتابة، ويكفي أنْ نُشير هنا إلى أسماء مثل عبد الله بن المقفّع، وسهل بن هارون، وأحمد بن يوسف وغيرهم ، وقد بلغ النفوذ السياسي لهذه النخبة الفارسية في دولة بني العبّاس حدًّا جعل الجاحظ يقول "دولة بني العبّاس أعجميّة خراسانيّة، ودولة بني مروان عربيّة أعرابيّة .
شهد القرنان الثاني والثالث الهجريّان اهتمامًا عديم النظير أَوْلَتْه الأمّة الإسلاميّة للحركة العلميّة والفكريّة. وإذا كانت بواكير هذا الاهتمام قد حدث في عهد الصحابة والتابعين ، فأنه يمكن القول إنَّ الدولة العباسية ولا سيّما في القرن الأوّل من عمرها قد تفوّقت في هذا المضمار حيث أسدى خلفاء بني العبّاس ووزرائهم البرامكة الفرس إهتمامًا بالحركة العلميّة وشجعوا العلماء والمترجمين وهكذا تحوّلت ثقافة بلاد فارس إلى ثقافة العرب المسلمين ، وقد تمَّ هذا التحوّل من طريقين طريق النقل والترجمة، الذي برز فيه ابن المقفّع وآل نوبخت، وطريق ثان هو تعرّب شعوب الشرق وانتقالهم إلى العربيّة حاملين إليها موروثاتهم وفنونهم ومعارفهم.
وقد كان للنفوذ السياسي الفارسي في دولة بني العبّاس أثر بارز في تحديد طبيعة الصلات الثقافيّة بين هذين الشعبين في وقت مبكر. حيث كانت الكتب التي موضوعها السياسة الملوكيّة عند الفرس أولى الكتب التي ترجمت الى العربيّة من الآثار الأجنبيّة في الأدب والسياسة، فوُضعت في متناول حكّام العرب وقوادهم ثمار تجارب عديدة في الحكم والسياسة، وأصنافًا من العلوم والآداب كانت تجمع معارف العصر، وشطرًا كبيرًا من التراث الحضاريّ الانساني ، فكانت هذه التراجم أقدم كتب وجدت في اللغة العربيّة في تلك الفترة .
لقد أدى هذا التفاعل التاريخي بين الأمّتين العربيّة والفارسيّة على إمتداد العصور وبكل صوره واشكاله أدّى إلى نفوذ مئات من المفردات الفارسيّة في اللسان العربي ، ولايخفى وجود الألفاظ المعرّبة في القرآن الكريم مثل: "سندس، وإستبرق، ومرجان، وسجّيل، وسرادق وغيرها..." ومن الألفاظ ما حافظ على صورته ولفظه، ومنها ما يصعب تشخيصه، نظراً للتغييرات الكبيرة التي طرأت على اللغة الفارسيّة حروفًا وقواعداً من جهة. ومن جهة أخرى ما شاب هذه المفردات من تصحيف أو تحريف، أو إقلاب أو إبدال حيث أضطر علماء اللغة العربية ان يتصرفوا بالمفردات الفارسية لتتلائمَ مع انغام الموسيقى للغة العربيّة .
هناك مجموعة من الظواهر التي أثر بها الفرس في الادب العربي ومن أهمها التوسّع بالغزل المكشوف والجهر بالمشاعر، وكان ( بشّار بن برد) أوّل من فتح هذا الباب على مصراعيه، وكذلك زوّد شعراء الفارسية الشعر العربي بمعانٍ وأخيلة جديدة، تتوافق والبيئةَ الحضاريّة للعصر العباسي ، وأولع بعض الشعراءُ في هذا العصر بالمحسّنات اللفظيّة والمعنويّة، وأُغرموا بها، وكان بعضُهم يتوخاها توخّيًا، ويتعمّدها تعمّدًا، ويتصيّدها في حرص شديد عليها، فكلفوا بالجناس الذي تفرّع وتنوّع ، وتلاعبوا بالألفاظ في حيل شتى ، وذلك لتظهر القصيدة الشعرية باجمل حُلّة ممكنة .
أمّا بناء القصيدة العربيّة فقد استمرّ بعد الاتصال بالفرس كما كان في العصر الجاهلي ، حتى إنَّ الشعراء من أبناء فارس اقتفوا آثار العرب، فنظموا الشعر الفارسي في ما بعد
على الأوزان العربيّة.
أضاف الفرس إلى العربيّة كثيرًا من المفردات، وزادوا على الأدب العربي بعض الموضوعات، وولّدوا طرائف من المعاني والخيال، ونافسوا العرب في النثر والشعر ، وأغنوا الثقافة العربيّة بمئات المؤلّفات في شتى العلوم ونقلوا إلى الإدارة والسياسة بعض النظم الجديدة.
مهما تحدث لنا المغرضون عن النزاع بين العرب والفرس، فإن هذا النزاع لا يشرح لنا كل شيء، كان المتنازعون إما من الرؤساءِ ومن التفَّ حولهم، وإما من الطامعين في الزعامة والمناصب ، وأما العلماء أكثرهم فكانوا كدأبهم في كل زمان يعملون ولا تسمع أصواتهم، وهم الذين تعاونوا على إغناء اللغة العربية بالكتب في شتى الفنون. فقد تقدم الفرس النجباءُ لحمل الأمانة العلمية وتطوير الحركة لدى المسلمين منذ العهد الاول لقيام الدولة الاسلامية في فنون كثيرة كالتفسير والحديث والفقه و حتى علوم العربية من نحو وصرف وعروض .