ضَعفَ الفرسُ في العصر الساساني، و تفاقمت عوامل الضعف حتى استعصت على الإصلاح .. في هذا الجو المظلم المتعكر ظهر نور الإسلام، و في السنة السادسة للهجرة قرر الرسول الاكرم ( صّلى الله عليه وآله وسلم ) أن ينقل الدعوة إلى خارج الجزيرة العربية فبعث كتابًا إلى " كسرى بن هرمز " ملك بلاد فارس، مع الصحابي الجليل ( عبد الله بن حذاقة ) يدعوه فيه إلى الإسلام، و كان بعض الفرس قد علموا بالدعوة الجديدة ، وما فيها من أخبار هذا الدين الذي ظهر بالحجاز، و الذي سآوى بين الناس كافة ، و أخرج أهله من الظلمات إلى النور، و لا فرق فيه بين عربي و أعجمي، و لا أبيض على أسود الا بالتقوى، فدخلوا الإسلام طواعية ، و بعد ذلك سهل فتح المدائن عاصمة الساسانيين ، و توالى الفتح بعدها إلى نهاوند سنة 21 هجرية ، و عرفت الحادثة بفتح الفتوح لأنها كانت المعركة الفاصلة التي حّقق المسلمون فيها فتح بلاد فارس و خضوعها على يد المسلمين .
وتعود أسباب انهيار الدولة الساسانية إلى الفتح الإسلامي و دخول المسلمين إلى فارس بأقل خسارة لأن معظم الفرس الذين كانوا يمّثلون الجيش الساساني من الطبقة الكادحة، والتي كانت متذمرة من الوضع الذي آلت إليه فارس في حكم الساسانيين، حيث انهم سمعوا عن سماحة الإسلام الذي ظهر في الجزيرة العربية و الذي يدعو إلى الاختيار في الدخول فيه بين الاعتقاد به أو دفع الجزية، و سماحته في الذين أُسروا و عوملوا كبقية المسلمين و أخوّته التي فاقت غيرها، و المعاملة الحسنة التي يتعامل بها المسلمون، هذه العوامل و غيرها هي التي دفعت الفرس إلى قبول الدين الجديد و الإيمان به، و سرعان ما أصبحت الهجرة إلى الجزيرة العربية أفواجًا وأشرقت وجوه الوافدين من الفرس إلى الجزيرة العربية و اختلط الجميع كعائلة واحدة و أصبح الكل يدينون بالإسلام، و يتطلعون إلى ما جاء به، لينهلوا من معينه، وكان أشهرهم الصحابي الجليل ( سلمان الفارسي المحمدي ) الذي جاء من مدينة اصبهان، فهاجر الى المدينة المنورة وآمن برسالة الاسلام .
و أقبل الفرس على تعلم اللغة العربية باعتبارها لغة هذا الدين و لغة القرآن العظيم و لغة أهل الجنة و أنها المفتاح لمعرفة كنوزه و الاهتداء إليها .
في فترة الفتوح الإسلامية حدث لكثيرٍ من فقهاء العرب و رواة الحديث أن أقاموا في بلاد فارس و أقاموا بها و فيهم لفيف من الصحابة من الذين قضوا حياتهم في تلك البلاد.
منهم جريدة بن الخصيب الأسلمي المدفون بمرو، و أبو برزة الأسلمي، و الحكم بن عمرو الغفاري، و عبد الله بن خازم الأسلمي المدفون بجوين، و قثم بن العباس المدفون بسمرقند، و كذلك جمع غفير من التابعين، فكان هؤلاء الرواد أول من قام بتعليم الناس و نشر علوم الدين في فارس ، وقد اسفر دخول العرب المسلمين المدن والقرى الفارسية بعد الفتح الاسلامي عن انتشار الشعر والادب العربي كما أسفر وجود الولاة العرب عن استقطاب الشعراء العرب والفرس بهدف اخذ الصلة والتكسب وهكذا توفرت الارضية الخصبة للغة العربية ان تنتشرت في بلاد فارس المترامية الاطراف ، وينبغي ان لاننسى ان أداء العبادات خاصة الصلوات الخمس باللغة العربية كانت من عوامل انتشار هذه اللغة في اوساط الايرانيين في ذلك الحين .
كان العلم أول اهتمام الفرس بعد الفتح الإسلامي لفارس، بدءً من تعّلم اللغة العربية ثم علوم الدين و انتهاءً الى الانفتاح على العلوم الاخرى ، و كانوا يعبرون عن علم الدين بلفظة "العلم" المجردة ، و كذلك كلمة "العالم" وتطلق عندهم على العالم بعلوم الدين و كان ذلك نتيجة لما كانوا يولونه من عناية و اهتمام بعلوم الدين و العالم الذي يمثلها في حياتهم الإسلامية .
و كانت عادة الدولة الإسلامية في أوائل الفتوح هي تعّين رجالا من علمائها في بلاد فارس لتعليم أهلها علوم القرآن والمفاهيم الدينية ، وعلى ذلكم العلماء انتشرت علوم الدين في بلاد فارس ، رغبة من أهلها و تحقيقًا لدعواتهم للاستفادة من علماء المسلمين و الأخذ عنهم، و ذلك لدواع دينية و دنيوية، فلقد كان الدين يؤهل أهل فارس للقيام بأداء فرائضهم الدينية كما يؤهلهم للاندماج في المجتمع الجديد في أرقى طبقة منه، أي طبقة العلماء المرموقين بعين الاحترام، و العلم أول وسيلة استخدمها الفرس للمشاركة في الحكومة الإسلامية، فاستخدموه قبل أن يستخدموا السياسة في ذلك. و كان العلم شرعة مباحة لكل طلابه، إذ كانت الدولة الإسلامية تحتفل بالعلم وتحتفي بالعالِم أيًا كان.
وبقيت آثار اللغة العربية مستندة الى منتجات علماء بلاد فارس الفكرية تتأرجح بين الزيادة و النقصان إلى يومنا هذا، دون أن يتم الاستغناء عنها، إذ لا زالت حروفها مستمدة من الحروف الهجائية العربية التي تجاوزت نسبتها السبعين بالمائة، هذا فضلا عن ما ورد من ألفاظ عربية في منتجات أهل فارس الفكرية على مر العصور بشكل متفاوت .
بعد الفتح الإسلامي لفارس، دخل الايرانيون في دين الله أفواجًا، عن طواعية، و كلهم إيمان أن الدين الإسلامي سيخّلصهم مما كانوا عليه من ظلم فانكبوا على تعّلم اللغة العربية لأنها مفتاح كل العلوم الأخرى، و بعدها تعلّموا القرآن الكريم على لسان علمائه، ثم الأصول الدينية و بذلك تفّتحت لهم سبل المعرفة، و صدقوا في إيمانهم بالله و برسوله صّلى الله عليه واله وسّلم، فأخذوا في البداية يقّلدون اساتذتهم من العرب المسلمين في كتاباتهم ثم بدءوا يستقلون رويدًا حتى نبغ منهم الكثير في ميادين مختلفة من العلوم الإسلامية ، و صار منهم العظماء كالذين ذكرهم الثعالبي في كتابه "يتيمة الدهر"، وهم كثَّر لا يسعنا ذكرهم. كما برع كثير منهم في العلوم الدينية و صاروا من أعلامها .
بعد فتح بلاد فارس على يد المسلمين العرب هاجرت إليها قبائل مختلفة من العرب لاسيما المناطق الشرقية منها التي كانت تشكل ثغور الدولة الاسلامية الفتية وحطوا الرحال في مدن خراسان الكبرى نظير نيسابور ومرو وبلخ وهراة ولم يلبث طويلا ان تم تاسيس مراكز للثقافة الاسلامية في تلك المدن .
وكانت اولى المراكز التعليمية هي الدور او المساجد التي كان الاطفال يتعلمون فيها القرآن الكريم باعتباره اساس القوانين الاسلامية وكان المعلم يستعين بالشعر والامثال العربية من اجل اثارة الرغبة لديهم على التعلم بنحو افضل وكلما ازداد عدد المساجد اتسعت رقعة تعلم اللغة العربية والقرآن الكريم بين الناس .
لاشك ان الحضور الفعال للمسلمين العرب والصحابة والتابعين في فتح بلاد فارس كان عاملا مهما للغاية في نزوع الايرانيين نحو المعارف القرآنية والاسلامية وبذلك بدأ الادب الديني وغير الديني مثل الشعر والنثر بالانتشار وراح يبسط نفوذه على اللغة والادب الفارسي قرون متمادية ومن ثم اصبحت ايران وبالاخص خراسان معقلا للعلوم الاسلامية والادب العربي .
ويمكن القول أيضاً إن الإيرانيين سعوا لتعلم العربية، والغوص فيها، وفي آدابها تقرباً للسلطان، والحكام المسلمين الذين كانوا من العرب أحيانًا إذ كان من شروط العمل في الدولة الإسلامية إتقان اللغة العربية.
لقد أحيا الإيرانيون اللغة العربية بعد الفتح الاسلامي في نفوسهم، وأسهموا في بيان قواعدها الصرفية، والنحوية، والاشتقاقية، والمعاني، والبديع، وفنون الفصاحة، وأساليب البلاغة ؛ وخدموها، ويبدو ذلك جلياً في إنتاجاتهم باللغة العربية، فهم لم يعدوا اللغة العربية لغة أجنبية، ولم يعدوا العربية لغة العرب وحدهم؛ بل لغة الإسلام، والمسلمين عامة، بل كانوا يرون الإسلام ديناً عالمياً أممياً، ويرون اللغة العربية لغة إسلامية أممية عالمية لجميع المسلمين في العالم أجمع .