رعب «11 ايلول الفرنسي» المنتقل الى محطة ثانية بعد الجمعة الدامية، وتحديداً الى اربعاء الحرب في «السان دوني»، للقضاء على «كوماندوس داعشي»، تبدّى في مجزرة اخرى في ضاحية «الديفانس» الباريسية.
رعب «11 ايلول الفرنسي» المنتقل الى محطة ثانية بعد الجمعة الدامية، وتحديداً الى اربعاء الحرب في «السان دوني»، للقضاء على «كوماندوس داعشي»، تبدّى في مجزرة اخرى في ضاحية «الديفانس» الباريسية، ومركز تجمع اكبر الشركات المالية والنفطية في فرنسا، في منطقة تشبه الى حد كبير برج التجارة العالمي في نيويورك، وتقترب بأبراجها العالية ووظيفتها الاقتصادية ورمزيتها من ابراج نيويورك، التي هاجمها تنظيم «القاعدة» في الحادي عشر من ايلول العام 2001. عبد الحميد ابا عود، او ابو عمر البلجيكي، في فراره يفرض ايقاع الحياة اليومية على الامن الفرنسي والفرنسيين، منذ ليلة الجمعة الدامية في الثالث عشر من تشرين الثاني الحالي.
«الداعشي» البلجيكي المغربي، وعدو الجمهورية الرقم واحد، قد يكون خاض آخر معاركه الجهادية في شقة من شارع «كوربيون» في ضاحية «سان دوني» الباريسية، شريطة ان تؤكد السلطات الفرنسية ان إحدى الجثتين تحت ركام الطابق الثاني تعود، بعد انتهاء العملية التي دامت سبع ساعات، الى عبد الحميد اباعود، العائد من البؤرة السورية ليصنع الحادي عشر من ايلول الفرنسي، ويدخل تاريخ الارهاب في فرنسا، كصاحب اطول لائحة من الضحايا على الارض الفرنسية منذ الحرب العالمية الثانية.
المدعي العام الفرنسي فرانسوا مولنس كان لا يزال يمتنع ليلاً عن الادلاء بأي تفاصيل عن هوية القتيلين في ما بات يُعرف بمعركة شارع «كوربيون»، لكن ما بات مؤكداً ان ابا عود ليس في عداد المعتقلين الثمانية الذين سقطوا بيد قوة النخبة.
المخبأ الذي اطلقت عليه قوات النخبة الفرنسية اكثر من خمسة آلاف طلقة، قادتها اليه عملية تنصت على اتصالات قريبة لابي عمر البلجيكي، ومعلومات متقاطعة ان الرجل قد وصل إلى فرنسا بعدما ساد الاعتقاد بوجوده في دير الزور، ومنها خطط لعمليات الجمعة الماضية .
القوة التي اقتحمت المبنى عند الرابعة والعشرين دقيقة فجراً، وصلت الى الطابق الثاني بسرعة، وباغتت ثلاثة ارهابيين واعتقلتهم، بما يفوق التوقعات الاولى التي اقتصرت على احتمال وجود ارهابي آخر الى جانب عبد الحميد ابا عود، ربما يكون صلاح عبد السلام، شقيق احد الانتحاريين، والناجي الوحيد الهارب من هجوم قوات النخبة في «بولفار فولتير».
في الشقة الثانية انذر صمود الباب المصفح امام عبوة الاقتحام المسلحين بداخلها. وعندما صدّعت الابواب في التفجير الثاني، انهال الرصاص على المهاجمين. ثلاثة منهم جرحوا، ونجوا بفضل دروعهم. امرأة فتحت النار ثم فجّرت حزامها الناسف، وانهارت ارضية الطابق، وتحصّن ثلاثة مسلحين في الداخل لتبدأ معركة متقطعة. القناص في المبنى المجاور أردى احدهم. وعندما اقتحمت الموجة الثانية من المهاجمين، ظهرا، ما تبقى من الشقة ، كانت جثتان تملآن بأشلائهما المكان، وثلاثة جرحى تحت الركام.
نبوءة رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، عن هجمات اخرى تُعدّ لفرنسا خلال اسابيع، تحققت اسرع مما كان يتوقع. المجموعة التي سقطت بيد الامن الفرنسي مع ذلك قد لا تكون الاخيرة، والمطاردة قد تستمر زمناً اكبر خصوصاً، ان خلية «داعش» التي نفذت العملية وصلت الى 18 ارهابياً، بين من فجروا انفسهم، او قتلوا برصاص الشرطة، او جرحوا وتم اعتقالهم، بالاضافة الى الارهابي الفار صلاح عبد السلام، وهو رقم يشبه ايضاً عدد افراد المجموعة التي نفذت هجمات 11 ايلول في نيويورك.
وتبدو العملية اوسع مما كان منتظرا، حيث تتشعب الخلية الى مجموعات حاولت استعادة الهجوم على اهداف جديدة، برغم الاستنفار الامني والعسكري الاستثنائي الذي تشهده فرنسا، مع اصرار على توجيه ضربات في قلب باريس او في ضواحيها القريبة، ووسط خليط سكاني فرنسي عربي.
ويبدو الفرنسيون في سباق مع الوقت، ومع الهجمات، لكنهم لا يزالون يترددون في الانعطاف الضروري، واعادة النظر في سياستهم في سوريا، التي تحولت الى بؤرة تنطلق منها العمليات ضد امنهم، مع احتمال عودة الآلاف من المقاتلين الاوروبيين الى بلدانهم. وتعمل كل الاجراءات الحالية على طمأنة الفرنسيين، من خلال نشر المزيد من القوات الامنية، واستدعاء الجيش الى باريس، وتمديد حال الطوارئ من 12 يوماً الى 3 اشهر.
ويبدو ان تباينا في التقاط اللحظة السياسية، يظهر خصوصا في تباعد مواقف الرئاسة والخارجية الفرنسية، في قراءة ما جرى. فعندما اعاد الرئيس هولاند النظر بالاولويات في خطابه امام البرلمان، اعتبر ان «داعش» هي العدو، وان ما جرى عمل «حربي» ضد فرنسا، فيما كان وزير خارجيته لوران فابيوس يقول «لقد هوجمنا لما نحن عليه، وليس بسبب سياستنا»، اي ضمنيا لاسباب حضارية، ليست سياسية تتعلق بالمغامرة التي يدعمها لتمزيق الدولة السورية واضعافها، كما حدث في ليبيا والعراق .
ويحاول الرئيس الفرنسي الدفع نحو خيار، لا تستطيع فرنسا دفع اكلافه وحدها، او حتى فرضه على الروس، ولا على الاميركيين. فرداً على دعوات المعارضة بالعمل مع الروس والتحالف معهم لانهم القوة الوحيدة التي تحقق تقدما جديا في الحرب على الارهاب في سوريا، وخصوصا الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، يسعى الرئيس الفرنسي الى عدم الاختيار، والى طلب قيام تحالف اميركي روسي موحد في سوريا، خلال زيارة يقوم بها لباراك اوباما في واشنطن، في الرابع والعشرين من الشهر الحالي، واخرى لفلاديمير بوتين في موسكو، في السادس والعشرين منه.
ويتجاهل الفرنسيون التباعد ما بين الاستراتيجيات والتحالفات السياسية في سوريا لكلا الطرفين، فضلا عن رفض موسكو العمل تحت قيادة التحالف الذي بنته واشنطن، كما ان اهدافها في سوريا جيواستراتيجية تتعلق باستعادة موقعها عبر البوابة السورية في كل المشرق العربي، وتعزيز الموقع السوري، فيما تعمل واشنطن مع حلفائها الاتراك والخليجيين على تطويعه واستنزافه، وتفادي ان يؤدي اي عمل ضد «داعش» الى تقوية الجيش السوري.
ولكن الفرنسيين يستفيدون من زخم التضامن الدولي مع باريس، روسياً واميركياً، من دون ان يصل ذلك الى محو التباعد بين التحالفين. فللمرة الاولى بدأ الاميركيون بتزويد الفرنسيين بمعلومات عن بنك الاهداف في سوريا، ووصل مسؤول وكالات الاستخبارات الاميركية الجنرال جايمس كلابر الى باريس للقاء وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لودريان والتنسيق معا لتبادل المعلومات.
وللمرة الاولى ايضا بعد الهجوم على باريس، بدأ الاميركيون، بشكل غير مسبوق، ضرب البنية النفطية لـ»داعش» في سوريا، ونفذت الطائرات الاميركية عملية دمرت ما لا يقل عن 120 صهريجاً. وكانت هذه الصهاريج تقوم بنقل نفط دير الزور المنهوب الى تركيا. وتقول تقديرات ان «داعش» جنى من بيع النفط السوري لتركيا خلال العامين الماضيين ما لا يقل عن مليار دولار .
وتقول مصادر فرنسية ان تنسيقا بدأ لتقسيم القطاعات البحرية في شرق المتوسط، وتحديد مواقع عمل الاساطيل المختلفة الروسية والاميركية، والتنسيق مع حاملة الطائرات الفرنسية «شارل ديغول»، التي ستضيف 24 مقاتلة، الى الاثنتي عشرة مقاتلة التي تنطلق من الاردن وابوظبي.
ويبدو ان الدعوة لم تؤد الى تشجيع التقارب الاميركي الروسي العملياتي، بل الى دفع الروس، مع الاعلان عن ان «داعش» هي من يقف وراء تفجير طائرتهم في شرم الشيخ، الى ارسال المزيد من الطائرات المقاتلة الى مطار حميميم السوري.
وتقول تقديرات غربية ان الروس الذين لم يستفيدوا من تضامن مماثل للتضامن مع باريس، بسبب الاعلان المتأخر عن حسم الطابع الارهابي للعملية التي استهدفت طائرة شرم الشيخ، لا يعززون قدراتهم الجوية في سوريا لشن حرب «ثأرية» على «داعش»، وانما للدخول في المرحلة الثانية من العملية الروسية التي بدأت هذا الاسبوع، والتي ستعمل على توسيع الهجمات البرية للجيش السوري وخاصة في الشمال وادلب وحلب.
ويجزم التقييم الحالي لما انجزه التحالف الاميركي بأنه لم يحقق اي تحول نوعي في الحرب مع «داعش»، الا ان الروس نجحوا نسبياً في تحقيق بعض اهداف المرحلة من العملية التي خصصوا لها 28 يوما في البداية. اذ نجحت الغارت الروسية في تأمين الواجهة الساحلية وكل التجمعات السكانية في غرب سوريا، ومنع عملية كانت تتأهب المعارضة لشنها على مناطق اللاذقية من ارياف حماة الشمالية، وتمكن التنسيق الرباعي من قلب المعادلة الميدانية فيها، وتحويل الجيش السوري الى حال الهجوم في هذه المنطقة، واستعادة السيطرة على سلاسل جبلية تمهد للجزء الثاني من العمليات الروسية بعد اكتمال عديد من لواء ايراني يعمل بإمرة قائد فيلق القدس قاسم سليماني الذي يقود عمليات ريف حلب الجنوبي بشكل خاص. كما نجح الروس بتحقيق هدفهم المباشر بقتل المئات من عشرة آلاف مقاتل قوقازي في صفوف المجموعات المسلحة وتدمير جزء من البنى التحتية لتلك المجموعات.
وخلال الايام المقبلة، تنضم الى الخمسين مقاتلة ومروحية هجومية روسية في سوريا، اسراب من 37 مقاتلة من طراز «سوخوي 24» و»سوخوي 27»، كما يرسل الروس المزيد من القوات والتقنيين، وفرق النخبة التي بلغت 4 آلاف تقني ومستشار وجندي لحماية الانتشار الروسي وتشغيله، ومن المنتظر ان تنضم اليها وحدات اضافية من الفرقة السابعة والاربعين الروسية، والفرقة 810 من مشاة البحرية الروسية. وقد تطول المرحلة الثانية، مع بدء استخدام القاذفات الروسية الاستراتيجية، لا سيما «توبوليف 160» القادرة على حمل 40 طنا من الاسلحة والقنابل ، و»توبوليف 95» ، التي تحمل 15 طنا من الاسلحة والقنابل ايضا .
المصدر: السفير