الكوثر_مقالات
صحيفة فايننشال تايمز البريطانية تنشر تقريراً للكاتبة هبة صالح، تحدثت فيه عن الحرب الصهيونية على شمالي غزّة.
بعد أن جرّده جنود جيش الاحتلال الصهيوني من ملابسه الداخلية، احتجز محمد، المحاضر الجامعي، مع عشرات الفلسطينيين نصف عُراة مدّةَ 12 ساعة مرعبة في حفرة رملية خارج مستشفى كمال عدوان في شمالي غزّة.
وكان كيان الاحتلال فرض حصاراً على المؤسّسة الطبية، التي كانت تعمل جزئيّاً، والتي كانت تكتظّ بجرحى الحرب، والأشخاص الذين يبحثون عن ملجأ هرباً من القصف. وتخشى المُنظّمات والجماعات المعنية بحقوق الإنسان من أن تكون هذه استراتيجية لإفراغ المنطقة من سُكّانها.
اقرأ أيضا:
في الأسبوع الماضي، اقتحم جيش الاحتلال الصهيوني المستشفى المذكور، وكان محمد بين عشرات الرجال، بمن فيهم الطاقم الطبي والمرضى، الذين اعتُقلوا. ويقول محمد، الذي لجأ مع عائلته إلى باحة المستشفى بعد أن فجّر جنود إسرائيليون منزلهما: "لقد حاصرتنا دبابات مزوّدة بمدافع رشاشة كانت تتناوب على إطلاق النار فوق رؤوسنا ونحن في حفرة، والجرّافات تتحرك قريبة جدّاً، حتى نتخيّل أنّها ستدفننا أحياء".
بعد الهجوم على المستشفى، وصف المفوّض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتّحدة فولكر تورك، الحملة الإسرائيلية المتجدّدة في شمال غزّة المدمّر، بأنّها "اللحظة الأكثر قتامة" مُنذ بدء الحرب مُنذ أكثر من عام.
وأسفرت حتّى الآن عن سقوط مئات الضحايا في المناطق المحاصَرة، مثل جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، بحسب بيانات السلطات الصحية الفلسطينية، في حين أعلن مسؤولون في الأمم المتّحدة أنّ القصف اليومي والغارات البرّية تسبّبت بمُحاصرة آلاف المدنيين.
كما أدّى تجدّد القتال إلى انقطاع الإمدادات الغذائية الحيوية عن المناطق المستهدَفة، حيث تعيش الأسر فعلاً في ظروف المجاعة، بسبب المنع الإسرائيلي لدخول المساعدات الغذائية والأوّلية.
وأثار الهجوم على المستشفى، المندرج ضمن سلسلة طويلة من الهجمات على الشمال خلال الحرب، إدانة دولية واسعة. وقال تورك إنّ تصرّفات الكيان الصهيوني قد ترقّى إلى مستوى الجرائم ضدّ الإنسانية، في حين حذّرت الولايات المتّحدة من "الأعمال لتجويع الفلسطينيين"، ووجهت تهديداً نادراً إلى كيان الاحتلال بأنّها قد تُعلّق مساعداتها العسكرية لها إذا لم يتحسّن الوضع.
لا يوجد مكان آمن
"لا يوجد مكان آمن"، تقول ماجدة الأدهم، وهي موظّفة تعيش مع 8 أطفال وأصهارها في جباليا. ترى أنّ المغادرة أصبحت خطرة للغاية، على الرغم من أمر الإخلاء الإسرائيلي، وهي بين آلاف الأشخاص الذين يخشون مُغادرة منازلهم المدمّرة بسبب القصف والغارات الجوّيَّة من حولهم، فـ"الذين غادروا تعرّضوا للضرب والقتل أيضاً من الجنود، إلى حيث لجأوا"
إنّ جماعات حقوق الإنسان تخشى أن يكون هدف كيان الاحتلال، على ما يظهر، هو إفراغ شمالي غزّة، كجزء من "خُطّة الجنرالات" المثيرة للجدل، والتي من شأنها تحويل الشمال إلى منطقة عسكرية مغلقة، ومعاملة المدنيين المتبقّين كأهداف عسكرية، مع أنّ "تلّ أبيب" لا تزال مُصرّة على نفي تنفيذ أيّ مُخطّط من هذا القبيل.
انتهت محنة محمّد أخيراً بعد يوم أمضاه بين المعتقلين في الحفرة. وقال إنّ الرجال أُخرجوا واحداً تلو الآخر، واستُجوبوا أمام الكاميرا من جانب الأجهزة العسكرية والاستخبارية. وتمّ تحميل بعضهم في شاحنات ونُقلوا بعيداً، في حين سمح لآخرين مثله بالخروج في الليل، وهم يرتدون ملابسهم الداخلية فقط.
يقول مدير مستشفى كمال عدوان، حسام أبو صفية، في رسالة مصورة نشرها في مواقع التواصل الاجتماعي، إنّ " الكيان الصهيوني اعتقل معظم العاملين في المجمّع تقريباً. وليس لدينا الآن أي قدرات أو إمدادات طبّية أو موظّفين قادرين على إجراء العمليات الجراحية".
وأضاف أبو صفية أنّ عشرات الجرحى، من جرّاء القصف المكثّف، في بلدة بيت لاهيا المجاورة، وصلوا إلى المستشفى مطلع الأسبوع الجاري، لكن لم يكن هناك جراحون لمعالجتهم.
"لقد رأيت طفلاً يحتاج إلى عملية جراحية في البطن لوقف النزف الداخلي، وأطفالاً لديهم عظام بارزة من لحمهم، ويحتاجون إلى عملية جراحية". وناشد أبو صفية المجتمع الدولي توفير ممرّ آمن للسماح للفرق الجراحية الأجنبية بالوصول من أجل علاج الجرحى، ودعا إلى توفير سيارات الإسعاف، لأنّه لم يبق منها في الشمال إلّا عدد قليل جدّاً.
تقول الأمم المتّحدة إنّ نحو 70 ألف شخص نزحوا إلى مدينة غزّة من المحافظات الشمالية، التي كانت هدفاً للحملة العسكرية.
وأصدر جيش الاحتلال أوامر إحلاء للمدنيين، لكنّ الفلسطينيين بقوا في الشمال لأنّهم لا يملكون ملجأً آخر غير منازلهم. وقال رامي المتوق، وهو صاحب محلّ بقالة في جباليا، إنّ عائلته قرّرت أن من الأكثر أماناً البقاء داخل مسكنها عوضاً مكن إخلائه، إذ لا يجرؤ أحد على السير في الشوارع، لأنّها غير آمنة، ومليئة بالجنود والدبابات والجثث والجرحى، الذين يموتون بسبب تأخّر نجدتهم، و"كنت في الشارع هذا الصباح ورأيت ثلاثة أشخاص يُقتلون بقذيفة دبّابة أمامي. وأنا أعلم أنّني قد أموت في أيّ لحظة.
كلّ واحد منا هنا في الشمال ينتظر الموت
كلّ واحد منا هنا في الشمال ينتظر الموت، والطعام قليل جداً، ويقتصر النظام الغذائي للأسرة على الخبز والأعشاب، ولدينا في العائلة 35 طفلاً لا يأكلون حتى الشبع أبداً، وخسر الجميع كثيراً من وزنهم".
وتقول ماجدة الأدهم، المسؤولة في السلك القضائي الفلسطيني، إنّ أسرتها نجت من الموت بسبب بضعة أكياس من الطحين وبعض الأطعمة المعلّبَة، والتي كانت لا تزال في حوزتها.
وخوفاً من الطائرات من دون طيار، والتي تطلق النار على كلّ من وما يتحرك، لا أحد يستطيع الخروج،فـ" أضطر إلى النزول إلى الطبقة الأرضيّة لملء دلو في الأيّام التي يصل الماء إلينا، ويكاد قلبي يتوقّف من الخوف، أتمنّى لو قُتلنا مُنذ بداية الحرب، لكنّا ارتحنا من كلّ هذا العذاب".