الكوثر - مقالات
كان السيد حسن في بعض الأوقات دليلي الأقوى في وجه من يقولون أنّ الكرامة والعزّة والصدق والشرف قيمٌ بائدة! لن تنتصر! وأنك لن تجدها إلا في كتب التاريخ وملاحم الغابرين!
أتحدث عن بداية الألفية وما قبلها، كنت وقتها صبيًّا لما يبلغ الحلم بعد، أقلب بصري في كلّ مكانٍ فلا أرى إلّا الضعف! الذل! والهوان! الشيخ أحمد ياسين في معتقلات الكيان القذر! رفاقه مستضعفون يتخطّفهم الناس! تلاحقهم سلطة أوسلو أكثر حتى من سلطات العدو! !وقتها كان السيد حسن أمنيةً وبشارة، ومن لبنان الحرب الأهلية وهوان الثمانينيات كان الإشراقة الأولى للأمل، للعزة المفتقدة وللنصر المُبين!
حسنًا! نصر الألفين لم يكن عاديًّا، لقد كان نصرًا في بحرٍ من الهزائم! جاء في وقتٍ كنّا نخسر فيه كلّ شيء، ونفرّط بكلّ شيء! جاء بعد مدريد وأوسلو، جاء وحكامنا يركعون "حرفيًّا" على أبواب البيت الأبيض، وبالدّور تتمّ إهانتهم علنًا! بالدور وبحسب الأقدمية! وفي وقتٍ كانت فيه مقابلة كلينتون- مجرد مقابلته- نصرًا!
حتى هذا النصر لم يكن متاحًا للجميع! أتذكر المهانة في وجوه من عادوا إلى بلدانهم دون تحقيق نصر "مقابلة كلينتون"!
إلا أن السيد حسن، وعلى مرّ السنوات، كان السّيد حسن! لا يطلق كلامه في الهواء! رجلٌ لا يقول إلا ويفعل، ويثبت لك في كلّ وقتٍ أنّه قادرٌ على الفعل، وأنّ حديثه ليس بالهزل!
كنت أراه ولا أرى أعداءه، إنهم أصغر من أن يراهم أحد! سِفلة القوم وأراذلهم! وقد كان عداءً واضحًا بين النقائض كلها: الكرامة والذل! الحقيقة والزيف! الرجال وأشباه الرّجال! الفضيلة كلّها في مواجهة الرذيلة كلها!
لم يكن في أعداء السيّد حسن شيءٌ منه، وبالمثل لن تجد في السيّد حسن خصلةً واحدةً ممّا يحملها أعداؤه! إنه واقعٌ تجاوز الأسطورة وقيمةٌ تُجسّد النقاء كلّه، والكرامة كلها، والشّرف كلّه!
أعداؤه عبر تاريخه محض طابورٍ من الساقطين، لقد كانوا يسقطون حتّى قبل بدء المنازلة! من سعد حداد وانطوان لحد إلى سمير جعجع! من بشير الجميّل إلى بن سلمان وبن زايد! من المحيط إلى الخليج كان أعداؤه الدناءة كلها والقذارة كلها، وكان- هو- السمو كلّه والطهارة كلها!تمدّدت المقاومة لكنّه كان الشرارة، وتوالت الانتصارات بفضل الله لكنه كان البشارة، تعوسج السّيد حسن وأثمر! امتدّ في المحور كاملًا! والمستضعفون من فلسطين والعراق واليمن أصبحوا بفضل الله قوّة، وكان السّيد حسن هو السّيد حسن! أخًا لك وبقية إخوانك عليك! إلى جوارك وقد انصرف الناس! معك وقد انقلب عليك النّاس!
وفي ٢٧ مارس ٢٠١٥م، في ذلك اليوم تحديدًا ونحن غرباء بلا أخٍ نصير، كان السّيد حسن وحده- من بين النّاس- نصيرًا! بكّت صنعاء كلها يومها! لا خوفًا من حربٍ ولا ضعفا!
لكن لأنّه يكفيها فخرًا أن تتحشّد الرذائل كلّها عليها،ويقف معها النقاء كلّه، والشّرف كلٌه، والكرامة كلها!
في تموز ٢٠٠٦ كان والدي وأخوالي، أخوتي وأنا نتحلق جميعًا حول المنار، أتذكرها كالحلم بصوت الراحل عمر الفرّا وصورة النصر متداخلةٌ في الذاكرة، أتذكر "رجال الله في لبنان" وحدهم! والعالم العربي من أقصاه إلى أقصاه خانعً ذليل، أو متواطؤٌ عميل!
ونحن في اليمن أفئدتنا معه، لكنها اليمن الحديقة الخلفية والحاكم الضعيف! كان وحده معه الله وقلوبنا، وفي فلسطين تكفيهم جراحهم وقلوبهم معه، والخانعون يصرخون: فليذهب المغامر إلى الموت وحده! وبالفعل! ذهب المغامر إلى الحرب وحده، انتزع لقلوبنا نصرًا وعاد إلى عرينه وحده! وكان ضباع القرية يستكثرون عليه حتّى الدّعاء!
ثابتٌ في مخيّلتي لم تهتزّ له صورة، ثابتٌ لأنه يعرف كيف يقرأ الصورة كاملةً ثمّ يتحشّد إليها بكلّه، صوته رعدٌ وسمتُهُ جبل، وأعداؤه جرذان صغيرة!
وها أنا الآن أراه في كلّ مكان! في غزة والعراق وعندنا في اليمن، رأيته في جبال مرّان وعلى تخوم نجران! رأيته حافيًا في أقصى شمالنا يحمل في يده قنبلة! ورأيته يقفز في غزة فرحًا بعد إحراق دبابة، رأيته في طومر والعزي والملصي، في باب المندب وفي شمال فلسطين، ورأيته في العراق يستهدف قاعدةً أميركيّة، وفي الشجاعية رأيته.. وما أدراك ما الشجاعيّة!
رأيته قائدًا وجنديًّا، شيخًا جليلًا وشابًّا فتيّا! بيننا وفي مقدمة الصفوف، رأيته في كلّ ثغرٍ وموقعٍ وجبل، في كلّ موقفٍ شريفٍ وفي كلّ قلبٍ نبيل!
رأيته يصلّي في القدس رأي العين!رأيته فردّا وآلافًا وملايين،وهو يصلّي- جميعًا- في القدس المحرّرة! صعيدٍ واحدًا وصفوف كثيرة
في كلّ قلبٍ يحمل كرامةً وطهارةً وشرف، رأيته!ورأيت أعداءه وهمًا وهوامًا وغبارًاو ذبابًا! نقطةً سوداء لا يأبه بها السّطر، وفراغاتٍ لا تلتفت إليها المقالة!
رأيته وما أوسع الرؤيا!وكتبت عنه وما أضيق العبارة!
(بقلم مصطفى عامر)