الكوثر_ مناسبات
اتفق المؤرخون أن الإمام لم يمت حتف أنفه، وإنما توفي مسموماً، وإن هارون الرشيد هو الذي أوعز في دسّ السم واغتياله، لكنهم اختلفوا فيمن تولّى ذلك.
فمنهم من قال: يحيى بن خالد ومنهم من قال: الفضل بن يحيى لكن الأول أقرب إلى الحقيقة، لأن الفضل عرف بميله للعلويين وقد رفّه على الإمام حينما كان في سجنه فاستحق بذلك التنكيل والتشهير من قبل هارون.
أن يحيى بن خالد دسّ السمّ إلى الإمام في رطب وعنب فقتله. ومما يؤيد ذلك ما رواه عبد الله بن طاووس قال: سألت الإمام الرضا (عليه السلام) قلت له: هل أن يحيى بن خالد سمّ أباك موسى بن جعفر؟
فقال الإمام: نعم سمّه في ثلاثين رطبة مسمومة.
وذكر أبو الفرج الأصفهاني أن الرشيد لما غضب على الفضل بن يحيى لترفيهه على الإمام حينما كان في سجنه، وأمره بجلده خرج يحيى من عند الرشيد وقد ماج الناس واضطرب أمرهم، فجاء إلى بغداد ودعا السندي بن شاهك وأمره بقتل الإمام (عليه السلام)، فاستدعى السندي الفراشين وكانوا من النصارى فأمرهم بلفّ الإمام في بساط فلفّ وهو حي فجلس عليه الفرّاشون حتى توفي.
وذكر ابن المهنا أن الرشيد لما سافر إلى الشام أمر يحيى بن خالد السندي بقتله فقتله. وهذه الروايات على اختلافها تفيد أن يحيى هو الذي أمر بقتل الإمام (عليه السلام) ولكنه المخالفة لما عليه الجمهور في أن الرشيد عهد إلى السندي بقتله.
كيفية سمّه
المشهور عند أكثر الرواة أن الرشيد عمد إلى رطب فوضع فيه سماً فاتكاً وأمر السندي أن يقدمه إلى الإمام ويحتم عليه أن يتناول منه وقيل أن الرشيد أوعز إلى السندي في ذلك. فأخذ رطباً ووضع فيه السم وقدمه للإمام فأكل منه عشر رطبات، فقال له السندي: (زد على ذلك) فرمقه الإمام بطرفه وقال له:
(حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه).
ولما تناول الإمام (عليه السلام) تلك الرطبات المسمومة تسمم بدنه، وأخذ يعاني آلاماً مبرحة وأوجاعاً قاسية، وأحاط به الأسى والحزن، قد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه الوغد الخبيث السندي بن شاهك فكان يسمعه في كل فترة أخشن الكلام وأغلظه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليجعل له النهاية المحتومة، لقد عانى الإمام العظيم في تلك الفترة الرهيبة ما لم يعانه أي إنسان، فتكبيل بالقيود وأذى مرهق، وآلام السم قطعت أوصاله وأذابت قلبه، والحزن الشديد الذي أثر فيه تأثيراً عميقاً لانتهاك حرمته، وغربته عن أهله وعدم مشاهدة أعزائه وأحبائه، وقد أشرف على مفارقة هذه الدنيا.
رعب وخوف واضطراب
أقدم السندي الخبيث الذي باع ضميره للشيطان على ارتكاب الجريمة الخطيرة، فدبّ الرعب في قلبه واضطرب اضطراباً شديداً وخوفاً بالغاً من المسؤولية إمام الشيعة العلويين. فيا لهول المصيبة إمام معصوم ابن إمام معصوم، ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تنتهك حرمته ويقيد بالحديد والأغلال ويهان في السجن ويوكل بحراسته أشرار لئام ثم يدسّون له السم في السجن، فإنها لجريمة نكراء وأي جريمة!! فماذا يعمل السندي بعد فعلته هذه؟!
استدعى الوجوه والشخصيات المعروفة في مجتمعه إلى قاعة السجن وكانوا ثمانين شخصاً، كما حدث بذلك بعض شيوخ العامة يقول: أحضرنا السندي، فلما حضرنا، انبرى إلينا فقال:
(أنظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟ فإن الناس يزعمون أنه قد فعل به مكروه، ويكثرون من ذلك، وهذا منزله وفراشه موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به أمير المؤمنين ـ يعني هارون ـ سوءاً وإنما ينتظره أن يقدم فيناظره، وها هوذا موسع عليه في جميع أموره) يقول ذلك الشيخ: ولم يكن لنا همّ سوى مشاهدة الإمام ومقابلته فلما دنونا منه لم نرَ مثله قط في فضله ونسكه وتقواه فانبرى إلينا وقال لنا: (أما ما ذكر من التوسعة، وما أشبه ذلك، فهو على ما ذكر، غير أني أخبركم أيها النفر أني قد سقيت السم في تسع تمرات، وإني أصفر غداً وبعد غدٍ أموت).
ولما سمع السندي ذلك انهارت أعــصابه، ومشــت الرعـــدة بأوصاله واضــــطرب مثل السعفة التي تلعب بها الرياح العاصفة.
لقد أفسد عليه الإمام (عليه السلام) بشهادته هذه ما كان يرومه من الحصول على البراءة من المسؤولية في قتله.
إلى جنّة المأوى
في اليوم الثالث سرى السم في جميع أجزاء جسم الإمام الطّاهر (عليه السلام) فأخذ يعاني اشد الآلام وأقسى الأوجاع، وقد علم (عليه السلام) أن لقاءه بربه أصبح قريباً فاستدعى السندي وطلب إليه أن يحضر مولى له ينزل عند دار العبّاس بن محمد بن مشرعة القصب ليتولى غسله، وسأله السندي أن يأذن له في تكفينه فأبى (عليه السلام) وقال:
(إنا أهل بيت مهور نسائنا وحجّ صيرورتنا وأكفان موتانا من طاهر أموالنا وعندي كفني).
أحضر له السندي مولاه الذي طلبه، ولما ثقل حال الإمام (عليه السلام) مع وأشرف على النهاية المحتومة وأخذ يعاني زفرات الموت، استدعى المسيّب بن زهرة وقال له: (إني على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجلّ فإذا دعوت بشربة ماء وشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ واخضرّ وتلوّن ألواناً فأخبر الطاغية هارون بوفاتي) قال المسيّب:
فلم أزل أراقب وعده حتى دعا (عليه السلام) بشربة فشربها ثم استدعاني فقال لي:
(يا مسيّب إن هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه تولى غسلي ودفني، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبداً، فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به، فإن كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين بن علي (عليه السلام) فإن الله عزّ وجلّ جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا).
قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه وكان عهدي بسيدي الرضا (عليه السلام) وهو غلام، فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى، وقال: أليس قد نهيتك، ثم إن ذلك الشخص قد غاب عنّي، فجئت إلى الإمام (عليه السلام) فإذا به جثة هامدة قد فارق الحياة فأنهيت الخبر إلى الرشيد بوفاته.
لقد لحق الإمام (عليه السلام) بالرفيق الأعلى إلى جنة المأوى إلى جوار أبيه جعفر الصادق (عليه السلام) وأجداده المعصومين (عليهم السلام) وجدّه الرسول الأمين (صلّى الله عليه وآله) فاضت نفسه الزكية إلى بارئها فأظلمت الدنيا لفقده وأشرقت الآخرة بقدومه. وقد خسر المسلمون ألمع شخصية كانت تدافع عنهم وتطالب بحقوقهم، كما خسر الإسلام علماً عظيماً يذبّ عن كيان الإسلام، ويدافع عن كلمة التوحيد، ويناظر ويحاجج كل من أراد الاعتداء أو التحريف في شريعة الله الخالدة.
عاش معظم حياته لغيره، فكان أبرّ الناس بالناس، يعطف على الضعفاء، ويساعد الفقراء بصرره المعروفة باسمه، وأثلج قلوب المحتاجين بهباته الدائمة وعطاياه السخية ليخفف عنهم مرارة العيش وشقاء الحياة.
كان حليماً، كريماً، باراً، متسامحاً، محباً، عالماً، تقياً، ورعاً، مجاهداً، فقالوا عند موته: مات أحلم الناس، وأكظمهم للغيظ، وقد طويت بموته صفحة بيضاء من أروع الصفحات في العقيدة الإسلامية.
أيها العالم المجاهد المكافح، أيها الإمام العظيم لقد تلحّفت بثوب الشهادة ومضيت إلى الله شهيداً سعيداً فهنيئاً لك في مثواك الشريف الذي ما زال وسيبقى مزاراً لكل المسلمين المؤمنين.
فأين قبر هارون الطاغية؟ الذي صبّ عليك جام غضبه وأذاقك ألوان الأذى والإرهاق لقد اندثر كما اندثر غيره من قبور الطغاة الظالمين. وقفت في وجه هارون وكنت من أقوى خصومه تنعى عليه ظلمه وتندد بإسرافه وتبذيره أموال المسلمين على قصوره وخدامه وراقصاته وحيواناته...
أيها الشهيد السعيد سجبت استبداد الظالمين وجورهم وفزت برضاء الله ولم تصانع ولم تخادع بل رفعت راية الحق التي رفعها قبلك أبوك وجدك، وهتفت بصوت العدل تريد الخير والسعادة لجميع المسلمين الأحرار. لقد فزت فوزاً كبيراً وبقي اسمك عطراً على ألسن المسلمين المجاهدين قاطبة، ولقد خسر خصمك، وبطل سعيه، وأخمد ذكره وبات لعنة تلفظه الأفواه ولا يذكر إلا قرين الخيبة والخسران.
أنت كوكب من كواكب الإسلام المشرقة وعلم من أعلام الإنسانية نقف عندك لنأخذ عبرة ونستلهم من مواقفك كل جوانب الخير والحق.
لقد كنت على شفة الموت وجفن الحياة وبينهما مشرف الشهادة وهذه فوق الحياة والموت لأنها عري الذات وامتشاق الإرادة للانهمار على بحر الله والانذياع فيه بدون شراع. فسلام عليك يابن رسول الله، يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تُبعث حياً.
زمن شهادته
المشهور عند المؤرخين أن وفاة الإمام الكاظم (عليه السلام) كانت سنة 173هـ لخمس بقين من شهر رجب.
وكانت شهادته في يوم الجمعة وعمره الشريف أربع وخمسون سنة أو خمس وخمسون وكان مقامه منها مع أبيه عشرين سنة وبعد أبيه خمس وثلاثون سنة.
محل شهادته
المعروف أن شهادته كانت في حبس السندي بن شاهك، وقيل أنه توفي في دار المسيّب بن زهرة بباب الكوفة الذي تقع فيه السدرة وقيل أن وفاته في مسجد هارون، وهو المعروف بمسجد المسيّب ويقع في الجانب الغربي من باب الكوفة لأنه نقل من دار تعرف بدار عمرو.