تاريخ عمارة المرقد العلوي المقدس تبعاً لتسلسلها الزمني (القسم الثالث)

الثلاثاء 19 يوليو 2022 - 05:16 بتوقيت غرينتش
تاريخ عمارة المرقد العلوي المقدس تبعاً لتسلسلها الزمني (القسم الثالث)

أهل البيت-الكوثر: تناولنا في القسم الاول الثاني من (تاريخ عمارة المرقد العلوي المقدس تبعاً لتسلسلها الزمني) عمارة كل من "الملك محمد بن زيد الداعي الحسني" و "الأمير عبدالله بن حمدان الحمداني" و " الأمير عبدالله بن حمدان الحمداني" و"عضد الدولة البويهي والعمارة الإيليخانية" وسوف نستعرض في هذه الحلقة الثالثة، العمارة الصفوية وهي آخر عمارة للمرقد العلوي المقدس.

العمارة الصفوية:-

وهي العمارة الفخمة الحالية للمرقد العلوي المطهر التي أمر بإنشائها الشاه عباس الأول الصفوي في سنة 1023هـ/1614م, لتحل محل العمارة الإليخانية. قال المؤرِّخ الشهير السيد حسين البراقي المتوفى سنة 1332هـ في كتابه "اليتيمة الغروية والتحفة النجفية" ما نصه:(وإنَّ بناء قبر أمير المؤمنين عليه السلام للشاه الأول وهو الشاه العباس الأول وكان هو الذي جمع البنائين والمهندسين وبذل الأموال الكثيرة, وبنوا القبّة والرواق والصحن الشريف وهو هذا البناء اليوم, وكان تفصيل الصحن والقبّة بنظر الشيخ البهائي رضي الله عنه) (1).

وعندما توفي الشاه عباس الأول في سنة 1038هـ , لم تكن العمارة قد اكتملت بعد فأتمها حفيده الشاه صفي بن صفي ميرزا بن الشاه عباس الأول. نقل مؤرِّخ النجف الشيخ جعفر محبوبه في موسوعته "ماضي النجف وحاضرها" عن كتاب "المنتظم الناصري" (فارسي) لمؤلفه محمد حسن خان 282 في حوادث سنة 1042 ما ترجمته:(جيء بماء الفرات إلى أرض النجف بحكم الشاه صفي, فإنّه حين ما جاء زائراً القبّة المنورة وذلك المرقد الطاهر رأى بعض النقصان في بناء المرقد أَمَرَ وزيره ميرزا تقي المازندراني بإصلاح تلك الأماكن المشرّفة فجاء بالمعامير والمهندسين إلى النجف ومكث فيها ثلاث سنين مشغولاً بهذا العمل ووجدوا معدن صخر في غاية الصفاء والجودة في حوالي النجف فنقل ما يحتاجون إليه) (2).

وقد أشار الشيخ محمد السماوي في أُرجوزته الموسومة "عنوان الشرف في وشي النجف" إلى العمارة الصفوية بقوله:

ثم بنى الشاه بها (العباسُ)   ***    ما عجبت مما بناه الناسُ

فوسّع الصحن وشادَ القبّة     ***    وأحكم الأُس وأعلى التربة

إلى أنْ يقول:

ثم بَنى الشاه (الصفيّ) الصفوي    ***    حفيده أبـــــــهى بنـــــــاءٍ عَـلَوي

قبراً رخــــــــــامـاً دونـه  شبـاكُ   ***    لا الشمـــــس تحكيه ولا الأفـلاكُ

وقبـّــــــــــــة  بيــــــــن  منـارتيـنِ*** كالشمس  قد حُفـّت بكوكبينِ(3).

ان العمارة الصفوية الحالية لمرقد أمير المؤمنين عليه السلام هي تحفة فريدة من الفن الإسلامي الأصيل يحار القلم في وصفها ويقصر في التعبير عنها. فهي  تعدُّ أعظم وأفخم العمارات التي شيدت على مراقد أهل البيت عليهم السلام, وأجملها من حيث الهندسة والريازة, ولا تضاهيها أي عمارة أخرى.

وقد تشرف العلامة الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي المعروف بالشيخ البهائي "قدس سره" المتوفى سنة 1030هـ أو 1031هـ بوضع  هندستها المعمارية بطلب من الشاه عباس الأول الذي كان معاصرا له. فضلا عن ذلك وضع البهائي في هندسته للروضة الشريفة إعجازاً فلكياً من قبيل تعيين زاوية الزوال وتحكيم بزوغ الشمس على الحرم المقدس. وقد تضمنت هندسة البناء أيضا جوانب عدة من الرمزية العقائدية المستوحاة من آيات القرآن الكريم وأحاديث أهل البيت صلوات الله عليهم. وقد تناقل الخلف عن السلف ان غرفة الشيخ البهائي كانت تقع في الطابق العلوي في الجهة الغربية من الصحن الشريف وهي الغرفة المجاورة لرواق أبي طالب عليه السلام في الوقت الحاضر من الجهة اليسرى.

يقول الاستاذ الدكتور حسن الحكيم: (وكان للشيخ البهائي (ت 1031) دور كبير في هندسة الصحن الشريف والحضرة الحيدرية, إذ من النادر ان نجد له ندا بين العلماء العرب والمسلمين في حذق العلوم الرياضية والفلكية والهندسية فضلا عن العلوم الدينية. وقد بقي في مدينة النجف الاشرف مدة من الزمن استاذا في مدرستها, ونشأت بينه وبين علماء النجف علاقات وثيقة ودارت بينه وبينهم مراسلات شعرية ونثرية بعد مغادرته النجف الى اصفهان, واثناء وضعه خطط الصحن الحيدري الشريف بنى مكانا لنعال الزائرين, وقد كتب عليه...) (4).

وكان الشيخ البهائي قد نظم بيتين من الشعر نُقشت على القاشاني لتزيّن جدار المكان المخصص لحفظ الأحذية المعروف بالكيشوانية. ذكر البهائي في كتابه "الكشكول" ما نصّه: (قد صمّم العزيمة كاتب هذه الأحرُف محمد المشتهر ببهاء الدين العاملي على أنْ يبني مكاناً في النجف الأشرف لمحافظة نعال زوار ذلك الحرم الأقدس, وأنْ يكتب على ذلك المكان هذين البيتين اللذين سنحا بالخاطر الفاتر وهما:

هذا الأُفق المبينُ قد لاحَ لديكْ            ***    فاسجدْ متذللاً وعفّر خدّيكْ

ذا طورُ سينين فاغضضِ الطرفَ بِهِ    ***    هذا حَرَمُ العزَّةِ فاخلعْ نَعلَيكْ) (5).

أما أهم السمات الهندسية لهذه العمارة فتتمثل بالقبة البصلية الشكل ذات الرقبة الطويلة التي يبلغ ارتفاعها عن أرض الصحن العلوي الشريف30 متراً - الى حد عقدة البناء-, لذا فهي تعد أعلى قباب الأئمة عليهم السلام. وان ما يميز المنارتين الاسطوانيتين هو انخفاضهما عن القبة المنورة بمتر واحد. ويلاحظ ان المدخل الرئيس للحرم الشريف يكون من الجهة الشرقية من جهة الإيوان الكبير.

ويقع الحرم المقدس وسط الصحن الحيدري الشريف. ويلاحظ ان الصحن يتخذ شكلا مربعا وله باحات ثلاث الشرقية والشمالية والجنوبية, ويُحاط الصحن بسور كبير يتألف من مجموعة كبيرة من الغرف التي تنتظم بطابقين تتقدمها الأواوين. ومن الجدير بالذكر ان أبواب الصحن الشريف كانت ثلاثة في وقت إنشاء هذه العمارة وهي المعروفة الآن بباب الساعة من الجهة الشرقية وباب الطوسي من الجهة الشمالية وباب القبلة من الجهة الجنوبية.

وان ما يميز العمارة الصفوية هو جدرانها المكسوة بالقاشاني ذي النقوش الزخرفية ذات الأشكال المتنوعة والتناسق الدقيق والألوان المشرقة وقد ضمنت الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والقصائد الشعرية في مدح أهل البيت عليهم السلام ولا سيما سيد الأوصياء عليه السلام. ومما يجدر ان نذكره هنا ان المرقد لم يكن مذهبا في العهد الصفوي بل مكسوا بالحجر القاشاني الأزرق حتى زمن السلطان نادر شاه  إذ أمر في سنة 1155هـ/1742م بقلع القاشاني عن القبّة والمنارتين والإيوان الكبير وإكسائها بالصفائح النحاسية المطلية بالذهب الخالص

إقرأ أيضا: تاريخ عمارة المرقد العلوي المقدس تبعاً لتسلسلها الزمني (القسم الثاني)

 

 

 الهامش:

----------------

(1) اليتيمة الغروية والتحفة النجفية:401-402.

(2) ماضي النجف وحاضرها: 1/ 49.

(3) عنوان الشرف في وشي النجف:53.

(4) المفصل في تاريخ النجف الأشرف: 2/ 123-124.

(5) الكشكول:1/ 135.