بعد التحكيم الذي جرى في حرب صفّين تمرّدت فئة على الإمام علي (عليه السلام)، وسُمِّيت هذه الفئة الضالة المارقة بـ(الخوارج)، وقد اعطا الإمام علي (ع) للخوارج الفرص الكثيرة ليعودوا إلى رشدهم، لكنّهم استمرّوا في غيِّهم وتمردوا على خلافته وعاثوا في الأرض فساداً، وقد نصحهم الإمام (ع) قبل ان يتوجه إليهم بجيشه سنة 38 هـ في منطقة النهروان، فلم ينجوا منهم إلاّ القليل، ولم يقتل من أصحاب الإمام (ع) إلاّ القليل.
اجتمع من الجوارج من لم يقتل في معركة النهروان في مكة المكرمة وعقدوا العزم على قتل أمير المؤمنين (ع) ومعاوية بن ابي سفيان وعمرو بن العاص، وقد نجا من القتل كل من معاوية وعمرو، فيما تمكن اللعين (ابن ملجم المرادي) من إغتيال أمير المؤمنين في محراب مسجد الكوفة عند فجر التاسع عشر من شهر رمضان سنة 40 للهجرة النبوية.
تنفيذ الجريمة:
قال الراوي: بات (الملعون) عبد الرحمن بن ملجم في المسجد الكوفة ومعه رجلان : (شبيب بن بحيرة, و وردان بن مجالد) يساعدانه على جريمته، فلما أذَّنَ (ع) لصلاة الفجر ونزل من المئذنة وجعل يسبّحُ الله ويقدّسه ويكبّره ويُكثِرُ من الصلاة على النبي (ص)، وكان من كرمِ أخلاق الامام (ع) أنه يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم : الصلاة يرحمك الله، الصلاة ، قم إلى الصلاة المكتوبة عليك ، ثم يتلو عليه السلام : " إنَّ الصَّلاةَ تنهى عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَر " ، حتى إذا بلغ إلى الملعونِ فرآه نائماً على وجهه قال له: (يا هذا, قُمْ من نومِكَ هذا فإنَّها نومَةٌ يُمقِتُها الله ، وهي نومَةُ الشيطانِ ونَوْمَةُ أهلِ النَّارِ) .
وقال الراوي: فتحرك الملعون كأنه يريد أن يقوم وهو من مكانه لا يبرح، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : (لقد هممت بشيءٍ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، ولو شئتُ لأنبأتك بما تحت ثيابك) ، ثم تركه وعَدَلَ عنه إلى محرابه ، وقام قائماً يصلي، وكان (ع) يطيلُ الرُّكُوعَ والسّجُودَ في الصلاة كعادته في الفرائض والنوافل حاضرا قلبه.
وحانت ساعة الإغتيال ، فالتفت "الأشعث بن قيس الكندي" إلى ابن ملجم وقال: (النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح)، مما يعني أن الأشعث كان ظالعاً بالمؤامرة مع الخوارج.
وقال الراوي: أقبل (الملعون) المرادي مسرعا حتى وقف بإزاء الأسطوانة التي كان الإمام (ع) يصلي عليها ، فأمهله حتى صلى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه ، فعند ذلك أخذ السيف وهزَّه ، ثم ضربه على رأسه المُكرَّم الشريف، وأخذت الضربة من مفرق رأسه إلى موضع السجود، فلما أحسَّ الامام بالضرب لم يتأوَّه وصبر واحتسب، ووقع على وجهه وليس عنده أحدٌ قائلا: (بسم الله و بِاللهّ وعَلى مِلّةِ رَسولِ اللهِ: فزت وَرَبِّ الكعبة) ، ثم صاح: (قتلني ابن ملجم قتلني اللعين ابن اليهودية وربِّ الكعبة ، أيُّها النَّاسُ لا يفوتنَّكم ابن ملجم)، وسرى السم (السيف) في رأسه وبدنه، وثار جميع من في المسجد في طلب الملعون، وماجوا بالسلاح، وقد ولى " الملعون ابن ملجم" هاربا وخرج من المسجد.
وقال الراوي: أحاط الناس بأمير المؤمنين (ع) وهو في محرابه يشد الضربة، وهو يتلو قوله تعالى: " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى " ثم قال عليه السلام: جاء أمر الله وصدق رسول الله (ص).
فلما سمع الناس الضجة ثار إليه كلُّ من كان في المسجد ، وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون من شدة الصدمة والدهشة ، ثم أحاطوا بأمير المؤمنين عليه السلام وهو يشد رأسه بمئزره ، والدم يجري على وجهه ولحيته ، وقد خضبت بدمائه وهو يقول : (هذا ما وعد الله ورسوله, وصدق الله ورسوله) .
وقال الراوي: فاصطفقت أبواب الجامع وهبَّتْ ريحٌ عاصفٌ سوداء مظلمة، ونادى جبرئيل (ع) بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ : " تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتِلَ ابن عم محمد المصطفى، قُتِلَ الوصي المجتبى، قُتِلَ علي المرتضى، قُتِلَ والله سيد الأوصياء، قتله أشقى الأشقياء ).
وقال الراوي: غص المسجد بالعالم ما بين باك ومحزون، فما كان إلا ساعة وإذا بالصيحة من جهة "باب كندة" قد ارتفعت وزمرة من الناس وقد جاؤوا بعدو الله "ابن ملجم" مكتوفا، وهذا يلعنه وهذا يضربه، ويقولون له: يا عدو الله ما فعلت؟ أهلكت أمة محمد (ص) وقتلت خير الناس، وإنه لصامت وبين يديه رجل يقال له "حذيفة النخعي"، بيده سيف مشهور، وهو يرد الناس عن قتله، وهو يقول: هذا قاتل الإمام علي (ع) حتى أدخلوه المسجد.
قال الشعبي: كأني أنظر إليه وعيناه قد طارتا في أم رأسه كأنهما قطعتا علق، وقد وقعت في وجهه ضربة قد هشمت وجهه وأنفه، والدم يسيل على صدره، وكان على رأسه شعر أسود منشورا على وجهه كأنه الشيطان الرجيم، فلما جاؤوا به أوقفوه بين يدي أمير المؤمنين (ع)، فلما نظر إليه الإمام الحسن (ع) قال: هذا عدو الله وعدوك "ابن ملجم" قد أمكن الله منه، وقد حضر بين يديك : ففتح أمير المؤمنين (ع) عينيه ونظر إليه وهو مكتوف، ، فقال له: (أي عدوّ الله، ألم أحسن إليك)؟ قال: بلى.
فقال(ع): (فما حملك على هذا)؟ قال ابن ملجم: (شحذته أربعين صباحاً) ـ يقصد بذلك سيفه ـ وسألت الله أن يقتل به شرّ خلقه.
فقال(ع): (لا أراك إلّا مقتولاً به، ولا أراك إلّا من شرِّ خلق الله).
ثمّ قال (ع): (النفس بالنفس، إن هلكت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي، يا بني عبد المطّلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون: قُتل أمير المؤمنين، ألا لا يُقتلنّ إلّا قاتلي).
اُنظر يا حسن، إذا أنا متّ من ضربتي هذه، فاضربه ضربة بضربة، ولا تمثّلنّ بالرجل، فإنِّي سمعت رسول الله (ص) يقول: (إيّاكم والمُثلة، ولو بالكلب العقور).
الصحابي الجليل (أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ) يرثي أمير المؤمنين (ع) في رسالة وجهها إلى معاوية بن ابي سفيان يقول :
ألا أبلغ معاويـة بـن حـرب فلا قرت عيون الشامتـينا
أفي شهر الصلاة فجعـتمونا بخير الناس طرا أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا ورحلها ومن ركب السـفينا
في الحلقة اللاحقة سوف نتناول .. أمير المؤمنين (ع) يوصي اصحابه بما أوصى به رسول الله (ص)