ايران واحدة من البلدان البعيدة والغامضة التي لا تكاد تخطر ببالي حتى ترتسم في ذهني صورا غائمة وملامح باهتة تجعلني أنفر منها ربما لأن إيماني بالعلمانية يجعلني أرفض كليا الدولة الدينية وربما لأن أحكام مسبقة تراكمت في ذهني صنعتها ماكينات إعلام وسينما الغرب عملت كثيرا على تقديمها كدولة ضد المرأة وضد الفنون وضد الحياة تجيد أفعال الشرّ ضد العالم لذلك لم أكن أهتم بهذه البلاد ولم يكن يعنيني منها شيئا إلا أن تترك العالم في أمان.
ليل طهران
عندما وردتني دعوة من جامعة الزهراء بطهران للمشاركة في مؤتمر الحوار الثقافي بين إيران والعالم العربي لم أتردد كليا ووجدتها فرصة للاقتراب من هذه البلاد الغامضة التي تثير الهواجس كان يجب أن أعدّ ورقة للمشاركة بها في لجنة الفنون والآداب اخترت لها عنوان “المرأة الكاتبة ودورها في التقارب الثقافي” وحزمت حقائبي بلهفة وفضول.
في مطار الخميني الدولي بطهران نزلنا ليلا فكانت الحركة حثيثة في كل أرجاءه كأنه خلية نحل والمدينة هادئة في نوم عميق… كنت أتجول بعيني في أرجاء المطار التي بدا مختلفا عن مطارات العالم التي دخلتها تغيب عنه النعومة والرهافة وينفرد بملامح صارمة لعلها مقصودة تبدو في كل هذه الأعمدة المعدنية والخطوط المستقيمة والواجهات الصامتة، خارج المطار كانت نسائم الليل الباردة توقظ كل حواسنا لنرى طهران على حقيقتها وعندما كانت السيارة التي خصصتها لنا الجامعة تتجه بنا إلى المطار كانت تعبر بنا طرقات فسيحة وجميلة ونظيفة وكان يجب أن ننام إذ ينتظرنا في الصباح انطلاق أشغال المؤتمر.
محاورة إيران
في حفل الافتتاح اكتشفت أن أكثر من عشر دول تحضر بأكثر من ثمانين مشاركا من موريتانيا والجزائر والكويت وسلطنة عمان والعراق والسودان ولبنان وسورية وتونس وغيرها..
كانت أجواء الحفل لافتة للنظر بحرفية التنظيم ودقته وأهمية المداخلات التي تداول عليها كبار المسؤولين وكانت رسالة المؤتمر واضحة أن إيران تفتح ذراعيها لكل الضيوف وتفتح أبوابها لكل الثقافات، وكان يجب أن تبدأ أشغال المؤتمر لنمتحن هذه الرسالة الهامة التي تطرحها إيران على العالم العربي.
انقسمت فعاليات المؤتمر إلى أعمال لجان توزعت في مدن مختلفة بين طهران وقم ومشهد وقزوين… كنتُ ضمن لجنة الفنون والآداب التي تدور فعالياتها في جامعة الزهراء حيث استقبلتنا عميدة الجامعة بحفاوة بالغة وقدمت لنا مجموعة من النساء اللواتي يدرسن في الجامعة وتفاجأت أن كل هؤلاء النسوة دكاترة في اختصاصات مختلفة منها الفيزياء واللغات والبيولوجيا والعلوم الإنسانية… ولم أخف دهشتي وأنا أتحدث للعميدة أني كنت أعتقد أن المرأة الإيرانية لا يمكن أن تكون إلا سجينة بيت تعاني أعباء العائلة ومشاغل البيت ولا يمكن أبدا أن تكون قد وطأت عتبة المدرسة، اندهشت العميدة من ملاحظتي وهتفت بي: نحن متعلمات وفينا طبيبات ومهندسات وعالمات.
المفاجأة الحقيقية كانت في طبيعة جامعة الزهراء نفسها وهي المؤسسة الجامعية الوحيدة غير المختلطة والتي تضم ما يقدّر بعشرة آلاف طالبة في مركّب يتكون من مجموعة كليات ومبيت ومطعم كبير ومكتبات ورقية والكترونية ونوادي رياضة ومسبح وضمن أنشطة تثقيفية مختلفة مثل الفنون التشكيلية والموسيقى.
في قاعة المحاضرات التي كانت فسيحة بشاشتين عملاقتين قدمتُ مداخلتي وتحدثت عن دور المرأة الكاتبة التي يجب أن تتخلى عن دورها الأدبي التقليدي بما هي حارسة قيم أخلاقية ونبحث في تعريف جديد يتماهى مع دور المثقف العضوي الذي حدده قرامشي وشحنها بمهمة جديدة هي الالتزام بالأفكار التنويرية وقيم الحداثة، كان ثمة ترجمة فورية للفارسية لكل المداخلات التي كانت بالعربية ووجدت تجاوبا لطيفا مع مداخلتي فهتفت بي صديقتاي السودانية إشراقة مصطفى والعمانية فايزة محمد أنها “مداخلة قوية” ربما لأنها كانت مدججة برؤية فلسفية تستجيب لطبيعة تكويني الأكاديمي.
مشهد: المدينة المقدسة
كان اختتام المؤتمر في مدينة مشهد التي ذهبنا إليها بالطائرة ونزلنا في مطار آخر يختلف كليا عن مطار الخميني الدولي بطهران، مطار مشهد أنيق جدا وفسيح به مسحة جمالية وملامح أنثوية ساحرة ودخلنا المدينة المقدسة التي لها قيمة اعتبارية ورمزية كبيرة في الثقافة الدينية للإيرانيين، كان الاختتام في جامعة الفردوسي وهي مركّب يجمع بين عدد من الكليات ومكتبة الكترونية فخمة جدا في قاعة المطالعة الفسيحة أطليت برأسي لأجد أنها قاعة مختلطة و تضم المكتبة آلاف من الكتب بكل اللغات لكل لغة رفوفها وحواسيبها الخاصة بها والطريف أن بالجامعة مؤسسات اقتصادية وورشات ومصانع يتمرّن فيها الطلبة وتنتج بضائع مختلفة تباع في السوق وتعود المرابيح لصندوق الجامعة وقدمت لنا بعض هذه المنتوجات في شكل هدايا منها علب حليب وعصير وخبز… كان الثلج يتساقط في الخارج وكانت المناسبة الأولى في حياتي التي أراه فيها فكان يجب في كل مرة أن أغادر قاعة المؤتمرات وأخرج إلى الحديقة ألاعب ندف الثلج وأضحك مثل طفلة لا تريد أن تكبر.
من الصدف الجميلة بالنسبة لي ولكن من حكمة منظمي المؤتمر حتما أن جعلوا حفل الاختتام يتزامن مع افتتاح مدينة مشهد المقدسة عاصمة للثقافة الإسلامية، دخلتُ الحرم المقدس مع صديقتي الجديدة الكاتبة العمانية فايزة محمد، وكان الحفل أسطوريا افتتح بباقة من الأناشيد الدينية بالفارسية قدمت في شكل سنفوني يثير الرهبة ويشدّ الأنفاس ثم تتالت كلمات الترحيب ومراسم الإعلان عن مدينة مشهد عاصمة إسلامية بحضور عدد كبير من كبار المسؤولين الإيرانيين ووفود رسمية تتكوّن من وزراء سفراء من العديد من الدول الإسلامية من إفريقيا وآسيا ولعل السمة المميزة لهذا الاحتفال هو دقة التنظيم وحرفيته التي كانت بارزة.
بعد ذلك تجولنا في متحف إسلامي جُمّعت فيه نسخ نادرة من القرآن الكريم والسيوف وأدوات الحياة القديمة جدا التي تعود إلى زمن غابر، وبعد الغداء خرجت مع فايزة محمد صحبة مترجمة وهي شابة جميلة تخرجت حديثا من الجامعة وتشتغل في إحدى المؤسسات.
أتت متطوعة لتكون دليلنا في الحرم الكبير جدا الذي يستقبل كل أسبوع أكثر من خمسة آلاف متطوع لخدمته فضلا عن العمال والموظفين الرسميين، ومن العادات التي أدهشتني أن الإيرانيين يعتبرون العمل التطوعي خدمة مقدسة يسجلون أسماءهم وينتظرون لسنوات حتى يحين دورهم ليكونوا في خدمة الحرم وضيوفه، وهكذا في كل أسبوع يفد على الحرم المقدس خمسة آلاف من المتطوعين من مختلف طبقات المجتمع يسهرون على نظافة المكان و خدمة زواره.
عين القلب
كان اليوم جمعة والحشود تتوافد على الحرم المقدس، دخلت بنا الشابة الدليل إلى الساحة الفسيحة جدا ودلفنا من أبواب كبيرة حتى وصلت بنا إلى قاعة الصلاة التي زينت أبوابها بماء الذهب ونقشت جدرانها وأسقفها بنقوش بلورية في غاية من الروعة والجمال وفيها مرقد أحد علماء الدين المقدسين ورفعت بصري إلى فضاء القاعة الكبيرة و لا أدري ما الذي حدث لي؟ كأني تلاشيت وتحولت إلى روح خالصة تطير بي في عوالم روحانية شفافة، كنتُ أنقل بصري إلى فضاء الحرم مأخوذة وقد سُلبت مني كل حواسي فكأني أنظر بعين القلب ولم أنتبه إلا ودموع تسيل من عينيّ… لاحظت صديقتي فايزة شرودي وما ألم بي فكأني معها ولست معها سألتني: “فاطمة ما بك؟” لم أستطع أن أجيبها لا أعرف ما الذي حدث لي فقط وجدت نفسي لا أتمالك نفسي وأنخرط في بكاء شديد… لا أعرف اسم الإمام الذي يرقد في المكان لا أعلم ما فعله في حياته ولا كيف مات؟
لستُ من الشِيعة ولم أكن سُنّية إلا بثقافة المجتمع التي اختارتني لذلك ولكن ما الذي حدث لي وأنا في الحرم؟ ما الذي جعلني مشدودة إلى كل تلك الأجواء الروحانية؟ ما الذي حوّلني إلى كائن شفّاف وجعلني أحلّق بخفّة في فضاء المكان… لا أدري، إلى الآن لا أدري ما الذي أصابني؟
قريبا من الحرم الجامعي كنت أتجول مع الوفد العماني تُرافقنا ضحكاتنا فبدت المدينة نظيفة جدا تنتشر على جنباتها الحدائق الصغيرة والأشجار ومن الدكاكين الصغيرة تنتشر ألوان زاهية ومختلفة لحلويات إيرانية وروائح حشائش عطرة في أسواق المدينة التي تمتد على كيلومترات في شكل أنفاق تزدحم فيها الدكاكين وفي الطوابق العليا منها مصانع صغيرة وورشات لكل المنتوجات التي تباع… ولعل أطرف ما لاحظناه غياب المقاهي عن المدينة وربما تعكس طبيعة الأهالي الذين تنتشر لديهم ثقافة العمل، فالمدينة في حركية ونشاط دؤوبين ونظافة شديدة فلا تكاد تظفر بورقة على رصيف ما.
عندما تنبت الأسئلة
وأنا أحزم حقائبي للعودة إلى تونس كنا نتبادل بطاقات الزيارة وأجمع ضحكاتي مع أصدقاء كثر من تونس ومن كل البلدان المشاركة جمعتنا طهران في جامعاتها ومتاحفها والكثير من الصور والذكريات تزدحم في رأسي مع أسئلة جديدة لا أعرف كيف نبتت بداخلي.
جئت بفضول شديدة لأتعرف على تجربة دولة بعيدة وثقافة مختلفة اعتدت أن أرى العالم يشيطنها فبماذا عدت؟
صحيح أن بعضنا انزعج من غياب “النت” الذي لم يكن متاحا لنا وإن كانوا في الفندق يمدوننا بكل الرموز لفتحه، ولكن لم يكن يفتح لنا ونحن نرى بعض أصدقائنا الإيرانيين يفتح لهم، فهل أن إيران متوجسّة من ضيوفها وإن كان كذلك فلماذا تفتح أبوابها لنا؟ ولماذا كل من التقينا به من إيران تسبقه ابتسامته ويفتح قلبه لاحتضاننا؟
كنا نرغب في فتح صفحاتنا في “الفايسبوك” لنقول لأصدقائنا إننا في طهران وإننا بخير ولم يكن ذلك متيسرا لنا وإن كان بعضنا قال: “أعتقد انه من الأفضل أن يقطع الفايسبوك عن كل البلدان، ماذا فعلنا به غير تدمير أوطانا كانت آمنة؟”، وقد وافقه الأغلبية على عدم جدوى “الفايسبوك” وأضاف البعض أنها فرصة أن نريح أعصابنا من ثرثرته قليلا.
يعنيني كثيرا أن أرى المرأة فاعلة في المجتمع الإيراني وقد راقني أنها تحتل مناصب عليا في السياسة والتعليم، ولكن تساءلت مثل الكثير لماذا غابت عن منصّة حفل الإختتام؟
على امتداد رحلتنا التي امتدت أياما، كنا محاطين فيها بالإيرانيين من المسؤولين أو من الأهالي، لم نجد من يحدثنا عن الفرق بين الشيعة والسنة ولا من يسألنا عن تديننا من عدمه ولا من يسألنا عما في أوطاننا بل نحن كنا نسأل عن كل شيء… شخصيا كانت كل الأسئلة التي تخطر ببالي ألقيها حتى على المترجمة المصاحبة لنا: لماذا لا أرى مقاهي كثيرة؟ أين يلتقي العشاق؟ هل تستمعون إلى الموسيقى؟
كانت رغبتنا شديدة أن يكون نسق الندوات منخفض حتى يتسع لجولاتنا في المدينة لنتمشى في ساحاتها وندخل مقاهيها ونختلط بالناس فتزدحم ذاكرتنا بصور وروائح وألوان تجعلنا نشعر بعمق البلاد وخصوصيتها، ولعل هذا ما جعلنا لا نرى من العاصمة طهران غير برجها العالي الذي يعد معلما جميلا ومميّزا، لكن لا احد ينكر علينا إعجابنا الشديد بما وصلت إليه البلاد من تطور وتقدم علمي لاحظناه من خلال جامعاتها المختلفة وأيضا من خلال المتحف العلمي في وسط طهران مثلا والذي في بعض أجنحته تفتح نافذة على عالم الفضاء ولعل من أهم الأسئلة التي نبتت لديّ وسأحاول أن أقرأ كثيرا ربما أجد لها أجوبة هو ما الذي جعل إيران تتقدم وتتخلف بقية البلدان المجاورة لها؟ ما الذي حدث حتى حوّلت إيران حزنها الذي ترتديه نساءها إلى حدائق وأزهار منتشرة في كل ساحات المدن؟ وكيف قررت بعد حربها مع العراق الذي استنزفت الشعبين أن تتحول إلى قوة صاعدة لها اختراعات وابتكارات تغزو الأسواق؟ ما الذي حدث حتى حوّلت إيران ما تسميه “مظلوميتها” التاريخية إلى طاقة عمل جبّارة جعلتها في ظرف عقود قليلة دولة عظمى تتحاور مع الكبار في حين أن بقية الدول العربية رضيت بدور الكمبارس؟
المصدر: موقع إضاءات الإخباري