دراسة القول الأول
لقد كان القول الأوّل : أنّها توفّيت في المدينة المنوّرة فدُفنت هناك.
ودليل هذا القول: هو أنّه ثَبَتَ ـ تارخيّاً ـ أن السيدة زينب وصلت إلى المدينة ودخلت إليها ، ولم يثبت خورجها من المدينة.
ونحن ـ في مجال توضيح هذا القول الأول ـ نذكُرُ كلام المرحوم السيد محسن الأمين ثم نعلّق عليه بعد ذلك.
كلام السيد الأمين
قال السيد محسن الأمين العاملي ما يَلي :
يَجبُ أن يكون قبرها في المدينة المنوّرة ، فإنّه لم يثبت أنها ـ بعد رجوعها للمدينة ـ خَرجت منها ، وإن كان تاريخ وفاتها ومحل قبرها بالبقيع ( مجهولاً ) ، وكم من أهل البيت أمثالها من جُهِلَ محلّ قبره وتاريخ وفاته ، خصوصاً النساء.
تعليق على كلام السيد الأمين
رغم أنّنا نُقدّر للسيد الأمين مكانته العلميّة ومؤلّفاته القيّمة ، ولكنّنا نقول :
إنّ التحقيق في القضايا التاريخيّة عام للجميع ، وليس وقفاً على إنسان معيّن ، فإذا كان السيد الأمين يقول بحُجّيّة الظن حتى في المسائل التاريخية ، فليست هذه المزية خاصّة به ، بل يجوز لغيره ـ أيضاً ـ أن يُبدي رأيه ، وخاصّة بعد الإنتباه إلى « حريّة الرأي » المسموح بها في هذه الأمور والمواضيع !
وعلى هذا الأساس .. فنحن نُناقشه في رأيه ونظريّته ، ونقول :
أولاً : إنّه لا يوجد في المدينة المنوّرة ـ وفي مقبرة البقيع بصورة خاصّة ـ قبرٌ للسيدة زينب عليها السلام.
فكيف يُمكن أن يكون قبرها هناك ، ولم يعلم بذلك أحد ؟!
مع الإنتباه إلى الشخصية المرموقة التي كانت للسيدة زينب في أسرتها ، وعند الناس جميعاً ؟!
فهل ماتت في المدينة ولم يحضر تشييع جنازتها أحد ؟!
ولم يشهد دفنها أحد ؟!
ولم يعلم بموضع قبرها أحد ؟
ولم يتحدّث أحد من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) عن هذا الموضوع المهم ؟! وخاصّة الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق ( عليهم السلام ).
ثمّ .. كيف ولماذا لم يُشاهد أحد من الأئمّة الطاهرين أو من شخصيّات بني هاشم .. عند قبرها ؟!
وكيف لم يتحدّث واحد منهم عن زيارة قبرها ، أو عن تعيين موضع قبرها في المدينة ؟! مع ما ورد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حول الثواب العظيم لزيارة قبرها.
وما هي الدواعي لهذا الغموض والتعتيم عن سبب وتاريخ وفاتها ومكان دفنها .. حتى من رجالات أهل البيت ؟!
فهل كانت هناك أسباب وحِكَم تَفرض إخفاء قبرها ، كما كانت ذلك بالنسبة إلى قبر والدتها السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ؟
أم أنّ هناك حقائق وأخباراً خَفيَت عنّا ؟!
هذه أسئلة حائرة .. تجعلنا لا نوافق على القول الأوّل !
ثانياً : هناك أقوال تقول : إنّها خرجت من المدينة .. إلى الشام أو إلى مصر ، وهي تمنع من موافقتنا على القول الأوّل ، لأنّه معارض بقولين آخَرين .. لكلّ واحد منهما وثائقهما وأدلّتهما.
ثالثاً : لَيتَ شعري هل يأذن لي السيد الأمين ( رحمه الله ) أن أسأله :
إن كانت السيدة زينب دُفنت في المدينة المنوّرة ، وكان المرقد الموجود في قرية الراوية في ضاحية دمشق قبر امرأة مجهولة النسب ، كما ادّعى ذلك السيد الأمين ، فلماذا دُفنَ السيد بعد وفاته عند مدخل مقام السيدة زينب بضاحية دمشق ؟!
فهل كان ذلك بوصيّةٍ منه ؟!
أم أنّ أولاده إختاروا لقبره ذلك المكان .. وهم يعلمون نظريّة والدهم حول ذلك المقام؟!
دراسة القول الثاني :
خلاصة القول الثاني هي : أنّ السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) سافرت مع زوجها إلى الشام بسبب المجاعة التي وقعت في المدينة المنوّرة ، وقد كانت لعبد الله بن جعفر في ضواحي دمشق ضَيعَة ( بستان أو مزرعة ) فسافرت السيدة زينب ( عليها السلام ) إلى هناك ، وبعد وصولها ـ بمدّة ـ مَرِضَت وماتت ودُفِنت هناك.
جاء في كتاب كامل البهائي : « رُوي أنّ أمّ كلثوم أُختَ الحسين ( عليه السلام ) توفّيت بدمشق ( سلام الله عليها ). (4)
وقال ابن بطوطة ـ في رحلته المعروفة ـ :
« وبقرية قِبَلي البَلَد ـ أي : بلدة دمشق ـ على فرسخ منها : مشهد أمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) مِن فاطمة ( عليها السلام ).
ويُقال :
إنّ اسمها : زينب ، وكَنّها النبي « أمّ كلثوم » لِشَبَهِها بخالتها أمّ كلثوم بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعليه مسجد كبير ، وحوله مسكن وله أوقاف ، ويُسمّيه
أهل دمشق : قبر السِت أمّ كلثوم. (5)
وهنا أكثر من سؤال يتبادر إلى الذهن حول هذا القول :
السؤال الأول : إنّ التاريخ لم يَذكر مجاعةً وقعت في المدينة المنوّرة !! ففي أيّ سنة كانت تلك المجاعة ؟
وكم دامت حتى اضطرّ آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى الهجرة إلى الشام ؟
السؤال الثاني : إذا كانت وفاة السيدة زينب ( عليها السلام ) في السنة الثانية والستّين ـ كما ذكره بعض المؤرّخين ـ فلماذا لم تكن في المدينة المنوّرة حينما حدثت مجزرة « واقعة الحَرّة » ؟
إذ لا يوجد لها ـ ولا لزوجها عبد الله بن جعفر ـ أيّ إسم أو أثَر ، فهل وقعت المجاعة قبل واقعة الحَرّة أم بعدها ؟!
هذه أسئلة وتساؤلات متعدّدة لا جواب لها سوى الإحتمالات ، والظنّ الذي لا يُغني عن الحقّ شيئاً.
هذا .. وقد حاول بعض المعاصرين في كتاب سمّاه « مرقد العقيلة » أن يُثبت مدفنها في دمشق .. لا القاهرة ، واستدلّ بأدلّة وتَشَبّث ببعض الأقوال ، ولكنّها لا تَفي بالغَرض ، لأنّ الأدلّة غير قاطعة ، والأقوال غير كافية للإحتجاج والإستدلال ، وكما يُقال : « غير جامعة وغير مانعة ».
وممّا يُضعّف القول الثاني : أنّه حينما أرادوا تجديد بناء حرم السيدة زينب ( عليها السلام ) الموجود في ناحية
دمشق ـ قبل حوالي أربعين سنة ـ وحَفَروا الأرض لبناء الأُسُس والأعمدة ووصلوا إلى القبر الشريف ، ووجدوا عليه صخرة رُخام .. هذه صورتها :
هذا قبر زينب الصغرى المكنّاة بام كلثوم ابنت علي بن ابي طالب امّها فاطمة البتول سيّدة نساء العالمين ابنت سيّد المرسلين محمد خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلم
فإنّ صحّت هذه الكتابة فالقبر الموجود في ناحية دمشق قبرٌ لسيدة من بنات الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) واسمها : زينب الصغرى ، وهذا يدلّ على مدى إهتمام الإمام ( عليه السلام ) بهذا الإسم حيث اختاره لأكثر من بنت واحدة من بناته.
يُضاف إلى ذلك .. أنّنا نجد في بطون كتب التاريخ وصف السيدة زينب بـ « الكبرى » للفرق بينها وبين أختها.
وفي مجال دراسة القول الثاني .. هناك كلام طويل للسيد محسن الأمين في مناقشته لهذا القول ، ونحن نذكره ـ هنا ـ تتميماً للدراسة الموضوعيّة.
وليس معنى نقلنا لكلامه هو تأييدنا له في قوله ، بل .. إنّ هذا يعني أنّنا نضع المعلومات أمام الباحث ، ليكون على بصيرة أكثر من النقاط التي يُمكن أن تنفعه في إستكشافه لمحور البحث ، مع التنبيه المُسبَق ـ مِنّا ـ على إستغرابنا من كلامه ! ومن لهجته في التعبير عند الكتابة حول هذا الموضوع !!
وإليك نصّ كلامه :
« ... وفيما أُلحِقَ برسالة ( نُزهة أهل الحَرَمين في عمارة المشهدين ) في النجف وكربلاء ، المطبوعة بالهند ، نقلاً عن رسالة
( تحيّة أهل القبور بالمأثور ) عند ذكر قبور أولاد الأئمة ( عليهم السلام ) ما لفظه :
ومنهم : زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وكُنيَتها أم كلثوم ، قبرها في قرب زوجها عبد الله بن جعفر الطيار خارج دمشق الشام معروف ، جاءت مع زوجها عبد الله بن جعفر أيام عبد الملك بن مروان إلى الشام سنة المَجاعة ، ليقوم عبد الله بن جعفر في ما كان له من القرى والمزارع خارج الشام ، حتى تنقضي المجاعة ، فماتت زينب هناك ودُفنت في بعض تلك القُرى ، هذا هو التحقيق في وجه دفنها هناك ، وغيره غلط لا أصل له ، فاغتنم .. فقد وَهَمَ في ذلك جماعة فخبطوا العشواء ».
وفي هذا الكلام من خبط العشواء مواضع :
أولاً : إنّ زينب الكبرى لم يقل أحد من المؤرّخين أنها تُكنّى بأمّ كلثوم ، فقد ذكرها المسعودي والمفيد وابن طلحة وغيرهم ولم يقل أحد منهـم أنّهـا تكنّـى أم كلثـوم (6) ، بل كلّهم سمّوها : زينب الكبرى وجعلوها مقابل أمّ كلثوم الكبرى ، وما استظهرناه من أنّها تُكنّى أمّ كلثوم ظهر لنا ـ أخيراً ـ فساده.
ثانياً : قوله : « قبرها في قرب زوجها عبد الله بن جعفر » ليس بصواب ولم يقله أحد ، فقبر عبد الله بن جعفر بالحجاز ، ففي « عمدة الطالب » و « الإستيعاب » و « أُسد الغابة » و « الإصابة » وغيرها : أنّه مات بالمدينة ودُفن بالبقيع. وزاد في « عُمدة الطالب » القول بأنّه مات بالأبواء ودُفن بالأبواء ، ولا يوجد قرب القبر المنسوب إليها بالرواية قبر يُنسب لعبد الله بن جعفر.
ثالثاً : مجيؤها مع زوجها عبد الله بن جعفر إلى الشام سنة المجاعة .. لم نرَهُ في كلام أحد من المؤرّخين ، مع مزيد التفتيش والتنقيب. وإن كان ذُكرَ في كلام أحد من أهل الأعصار الأخيرة فهو حدس واستنباط كالحَدس ، والإستنباط من صاحب ( التحيّة ). فإنّ هؤلاء لَمّا توهّموا أنّ القبر الموجود في قرية راوية خارج دمشق منسوب إلى زينب الكبرى ، وأنّ ذلك أمرٌ مفروغ منه ـ مع عدم ذكر أحد من المؤرّخين لذلك ـ استنبطوا لتصحيحه وجوهاً بالحدس والتخمين .. لا تَستند إلى مستند ، فبعض قال : « إنّ يزيد ( عليه اللعنة ) طلبها من المدينة فعظم ذلك عليها ، فقال لها ابن أخيها زين العابدين ( عليه السلام ) : « إنّك لا تَصلين دمشق » فماتَت قبل دخولها. وكأنّه هو الذي عَدّه صاحب ( التحيّة ) غلطاً لا أصل له ووقع في مثله ، وعَدّه غنيمةً وهو ليس بها ، وعَدّ غيره خبط العشواء وهو منه. فاغتَنِم .. فقد وَهَمَ كلّ من زَعَم أنّ القبر الذي في قرية راوية منسوب إلى زينب الكبرى ، وسبب هذا التوهّم : أنّ مَن سمع أنّ
في راوية قبراً يُنسَب إلى السيدة زينب سَبَقَ إلى ذهنه زينب الكبرى ، لتبادر الذهن إلى الفرد الأكمل ، فلمّا لم يجد أثراً يدلّ على ذلك لجأ إلى استنباط العِلَل العليلة. ونظير هذا أنّ في مصر قبراً ومشهداً يُقال له : « مشهد السيدة زينب » ، وهي زينب بنت يحيى ، وتأتي ترجمتها ، والناس يتوهّمون أنّه قبر السيدة زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولا سَبَبَ له إلا تبادر الذهن إلى الفرد الأكمل.
وإذا كان بعض الناس إختلقَ سبباً لمجيء زينب الكبرى إلى الشام ووفاتها فيها ، فماذا يختلِقون لمجيئها إلى مصر ؟! وما الذي أتى بها إليها ؟
لكن بعض المؤلفين من غيرنا رأيتُ له كتاباً مطبوعاً بمصر ـ غاب عنّي الآن إسمه ـ ذكر لذلك توجيهاً « بأنّه يجوز أن تكون نُقلت إلى مصر بوجهٍ خفي على الناس ». مع أنّ زينب التي هي بمصر هي زينب بنت يحيى حَسَنيّة أو حُسَينيّة كما يأتي ، وحال زينب التي برواية حالُها.
رابعاً : لم يَذكر مؤرّخ أنّ عبد الله بن جعفر كان له قُرى ومزارع خارج الشام حتى يأتي إليها ويقوم بأمرها ، وإنّما كان يَفِدُ على معاوية فيُجيزُه ، فلا يَطول أمر تلك الجوائز في يده حتّى يُنفِقَها بما عُرِف عنه من الجود المُفرط. فمِن أينَ جاءته هذه القُرى والمزارع ؟ وفي أيّ كتابٍ ذُكرت مِن كُتُب
التواريخ ؟!
خامساً : إن كان عبد الله بن جعفر له قرى ومزارع خارج الشام ـ كما صَوّرته المُخيّلة ـ فما الذي يَدعوه للإتيان بزوجته زينب معه ؟! وهي التي أُتيَ بها إلى الشام أسيرةً بزيّ السبايا وبصورة فظيعة ، وأُدخلت على يزيد مع ابن أخيها زين العابدين وباقي أهل بيتها بهيأةٍ مُشجية ؟!
فهل من المتصوّر أن تَرغَب في دخول الشام ورؤيتها مرّةً ثانية وقد جرى عليها بالشام ما جرى ؟!
وإن كان الداعي للإتيان بها معه هو المجاعة بالحجاز .. فكان يُمكنه أن يَحمل غلات مزارعه ـ الموهومة ـ إلى الحجاز أو يبيعها بالشام ويأتي بثمنها إلى الحجاز ما يُقوّتها به ، فجاء بها إلى الشام لإحراز قوتها ، فهو ممّا لا يقبله عاقل ، فابن جعفر لم يكن مُعدَماً إلى هذا الحدّ ، مع أنّه يتكلّف من نفقة إحضارها وإحضار أهله أكثر من نفقة قوتها ، فما كان ليُحضرها وحدها إلى الشام ويترك باقي عياله بالحجاز جياعاً !!
سادساً : لم يُتَحقّق أنّ صاحبة القبر الذي في راوية تُسمّى زينب لو لم يُتحقّق عدمه ، فضلاً عن أن تكون زينب الكبرى ، وإنّما هي مشهورة بأمّ كلثوم ».