هناك بعض الروايات تشير إلى شيء من ذلك، فقد ذكر في دعائم الإسلام عن علي صلوات الله عليه: «أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)كان يطوى فراشه ويشدّ مئزره في العشر الأواخر من شهر رمضان. وكان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وكان يرشُّ وجوه النّيام بالماء في تلك الليلة. وكانت فاطمة (عليها السلام) لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة، وتداويهم بقلّة الطعام وتتأهّب لها من النّهار، وتقول: محروم من حرم خيرها».
وعن الفضيل بن يسار: "كان أبو جعفر (عليه السلام) إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين أخذ في الدعاء حتى يزول الليل، فإذا زال الليل صلى". وظاهر الرواية استمرار الإمام (عليه السلام) على هذا الأمر في كلّ عام، وأنّه كان بمنظر من أصحابه (عليه السلام)، وليس في مكان خاصّ. وعن محمّد بن أحمد بن مطهر: «أنّه كتب إلى أبي محمّد (عليه السلام) يخبره بما جاءت به الرواية: أنّ النّبي (صلَّى الله عليه وآله) كان يصلّي في شهر رمضان وغيره من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر، فكتب (عليه السلام): فضّ الله فاه، صلّى من شهر رمضان في عشرين ليلة؛ كلّ ليلة عشرين ركعة ثماني بعد المغرب، واثنتي عشرة بعد العشاء الآخرة، واغتسل ليلة تسع عشرة، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وصلّى فيهما ثلاثين ركعة؛ اثنتي عشرة بعد المغرب، وثماني عشرة بعد عشاء الآخرة، وصلّى فيهما مائة ركعة، يقرء في كلّ ركعة فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد عشر مرات، وصلّى إلى آخر الشهر كلّ ليلة ثلاثين ركعة كما فسرّت لك».
ليلة القدر والإمامة
وردت روايات كثيرة جداً تربط بين ليلة القدر وبين الإمامة، مثلاً روى الصدوق أنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال لأصحابه: «آمنوا بليلة القدر إنَّها تكون لعلي بن أبي طالب وولده الأحد عشر من بعدي». وفي الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يا معشر الشيعة خاصموا بسورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} تحلجوا، فوالله إنها لحجَّة الله تبارك وتعالى على الخلق بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)وإنّها لسيدة دينكم، وإنّها لغاية علمنا، يا معشر الشيعة خاصموا بـ {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}؛ فإنّها لولاة الأمر خاصة بعد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، يا معشر الشيعة يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ}»(36).
ما هو سرُّ هذه الليلة؟ وكيف يستدلّ بها على الإمامة؟
الجواب في نفس روايات المعصومين (عليهم السلام)، حيث أشارت بعضها إلى أنَّ تنزّل الملائكة في ليلة القدر يقتضي وجود شخص (منزَّل عليه)، وهو رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في حياته، والأئمة (عليهم السلام) بعد رحيله، فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان علي (عليه السلام) كثيرا ما يقول (ما) اجتمع التيمي والعدوي عند رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) وهو يقرأ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} بتخشّع وبُكاء فيقولان: ما أشدَّ رقتُّك لهذه السورة؟ فيقول رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): لما رأت عيني ووعا قلبي، ولما يرى قلب هذا من بعدي فيقولان: وما الذي رأيت وما الذي يرى قال: فيكتب لهما في التراب: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، قال: ثم يقول: هل بقي شيء بعد قوله (عزَّ وجلَّ): {كُلِّ أَمْرٍ} فيقولان: لا، فيقول: هل تعلمان من المنزل إليه بذلك؟ فيقولان: أنت يا رسول الله، فيقول: نعم، فيقول: هل تكون ليلة القدر من بعدي؟ فيقولان: نعم، قال: فيقول: فهل ينزل ذلك الأمر فيها؟ فيقولان: نعم، قال: فيقول: إلى من؟ فيقولان: لا ندري، فيأخذ برأسي ويقول: إن لم تدريا فادريا، هو هذا من بعدي، قال: فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول (صلَّى الله عليه وآله) من شدّة ما يداخلهما من الرعب».
وفي بيان آخر للاستدلال عن مولانا الإمام الباقر (عليه السلام) حيث يستدلّ على العصمة والإمامة بالأمر المحكم الذي ينزل ليلة القدر والذي لا اختلاف فيه، فمن جاء بشيء فيه اختلاف فهو دليل على عدم عصمته، ومن جاء بأمر لا اختلاف فيه فهو المعصوم الذي يأخذ عن الله تعالى، قال (عليه السلام): «قال الله (عزَّ وجلَّ) في ليلة القدر:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، يقول: ينزل فيها كلّ أمر حكيم، والمحكم ليس بشيئين، إنّما هو شيء واحد، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف، فحكمه من حكم الله (عزَّ وجلَّ)، ومن حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت، إنّه لينزل في ليلة القدر إلى ولي الأمر تفسير الأمور سنة سنة، يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا وكذا، وفي أمر النّاس بكذا وكذا، وإنّه ليحدث لولي الأمر سوى ذلك كلّ يوم علم الله (عزَّ وجلَّ) الخاص والمكنون العجيب المخزون، مثل ما ينزل في تلك الليلة من الأمر، ثمّ قرأ: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}».
وفي بيان ثالث يذكره مولانا زين العابدين (عليه السلام) حيث يقول: «{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقال في بعض كتابه: {وَمَا محمّد إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} يقول في الآية الأولى: إنّ محمّدا حين يموت، يقول أهل الخلاف لأمر الله (عزَّ وجلَّ): مضت ليلة القدر مع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) فهذه فتنة أصابتهم خاصة، وبها ارتدوا على أعقابهم، لأنّه إن قالوا: لم تذهب، فلابدَّ أن يكون لله (عزَّ وجلَّ) فيها أمر، وإذا أقرّوا بالأمر لم يكن له من صاحب بد».
وهذا المضمون قريب من مضمون الرواية الأولى؛ لأنّ من يسلّم أنَّ ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة، لا بدَّ من أن يسلّم بوجود شخص تتنزل عليه الملائكة من كل أمر. ويمكن استفادة عدة أمور من ليلة القدر فيما يرتبط بالإمامة:
الأمر الأول: أنَّ الأرض لا تخلو من حجّة؛ لأنّ ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة، ولا بدّ لها من صاحب.
الأمر الثاني: عصمة هذا الشخص الذي يتلقّى الأمور مباشرة من الملائكة.
الأمر الثالث: علمه الواسع والشامل لكلّ شيء، وهو ظاهر ما تقدم عنه (صلَّى الله عليه وآله) في الرواية الأولى المتقدمة حينما قال للرجلين: «هل بقي شيء بعد قوله (عزَّ وجلَّ): {كُلِّ أَمْرٍ}»، وتأتي روايات تدلّ على ذلك.
المصدر :
مجلة رسالة القلم - الشيخ عزيز حسن الخضران