قال مفتي جمهورية تتارستان "الشيخ كميل سميع الله" بأن أول مصحف صحيح طُبع في مدينة "قازان" عام 1803 للميلاد.
و"أُنزل القرآن الكريم في مكة، وقُرئ في مصر، وكُتب في اسطنبول، وطُبع في قازان"، بكل الفخر، كان مفتي جمهورية تتارستان "الشيخ كميل سميع الله" يسوق هذه الجملة في كلمته بحفل الجامعة الإسلامية في قازان، وألفيت نخب القوم هناك يردّدون ذلك، وللدقة العلمية أكثر، كانوا يقولون بأول قرآن صحيح مطبوع، لأن القرآن الكريم سبق وأن طُبع في القرن السابع عشر في أوروبا، قبل طبعة قازان التي يدلّون بها، وسأبحر معكم في المقالة بجولة سريعة عن قصة أول قرآن كريم خرج من رحم المطبعة بشكل صحيح.
والطباعة تعتبر إحدى أهم اكتشافات البشرية الكبرى، فقد بدأ عصر جديد للبشر بعد ذلك الاكتشاف، مؤذناً بانتشار العلم، وتبادل الثقافات، وتلاقح العلوم، وتلاقي الثقافات، والفضل لرجل اسمه "يوحنا غوتنبرغ" من ألمانيا، واخترع آلته في عام 1436م.
وظهر أول كتاب مطبوع في أوروبا في العام 1440م، والغريب أن أول كتاب باللغة العربية كان في العام 1505م في مدينة غرناطة، عبر كتابين هما: "وسائل تعلُّم قراءة اللغة العربية ومعرفتها"، والثاني معجم عربي بحروف قشتالية، بتوجيه من الملك "فرديناد" وزوجته "إيزابيلا"، الديكتاتورين السيئي الذكر، والمرتبطَين بمحاكم التفتيش المؤلمة في الأندلس.
وللأسف، وقف مشايخ وعلماء الدولة العثمانية ضد الطباعة، وأفتوا بتحريمها، وأخرّوا الأمة الإسلامية قرنين من الزمان، وعندما أفتوا بعدها بجوازها، استثنوا طباعة القرآن الكريم، خوفاً عليه من التحريف، وهذا يُحسب لهم، فقد كانت المطابع تعجٌّ بالأخطاء وعدم التقيّد بالرسم العثماني، والمصحف قبلها كان يكتب عبر خطّاطين تفنّنوا عبر تأريخنا الإسلامي، وازدهر الخط العربي وقتها وبلغ ذروته، واتخذ أنماطاً ومدارس عديدة، عكس حاضر اليوم، الذي يشهد انحساراً كبيراً، وأتوقع أن الكتابة باليد ستتلاشى تقريباً خلال جيل أو جيلين، وما ثمّ إلا النقر على لُوح المفاتيح، وتنتهي الكتابة باليد كفنٍّ غابر فقط.
ومفتي قازان في كلمته قال بأن أول مصحف صحيح طُبع في عاصمة إسلامية كان في مدينته، وأن طباعته كانت في العام 1803م، حيث قازان وقتها، حاضرة من حواضر العالم الإسلامي، رغم خضوعها لحكم القياصرة الروس، الذين أذاقوها الويل والذلّ، وحتى عندما سمحوا بالمطبعة العربية فيها، كانت تحت قيود مشدّدة جداً، واجراءت صارمة.
وعموماً بعثت بمعلومة المصحف في قازان لبعض الأصدقاء، فانبرى لي فضيلة الشيخ د. محمد السعيدي، هذا الصديق الموسوعة، الذي له في الأدب واللغة والشريعة والتاريخ والمنطق الباع الطويل، وخالفني، وألحّ عليّ بالتأكد من معلومة طباعة المصحف وتأريخه في قازان.
لذتُ -وأنا هناك- إلى بعض الدراسات والبحوث العربية التي تناولت الموضوع، وألفيت أن "مصحف قازان"، وهذا اسمه، طُبع في العام 1848م، ما شوشني، وبالطبع كان الاتفاق على أن أول مصحف في التاريخ طبع بمدينة "البندقية" في إيطاليا عام 1537م، ثم طبع المصحف مرة أخرى في "هامبورغ عام 1694م، وهناك طبعة مدينة سانت بطرسبورغ بأمر من "كاترينا الثانية" قيصر روسيا في العام1787م، وأشرف عليها مفتي قازان وقتها، بيد أن كل تلك المصاحف، إما أنها لم تتقيّد بالرسم العثماني، أو بفصل الآيات، أو بها أخطاء مطبعية جسيمة، وردّها المسلمون حينها ولم يقبلوها.
والمصحف الصحيح الأول الذي خرج عن طريق المطبعة كان في مدينة قازان، وبقي عليّ أن أتأكد من تأريخها، ووجدت الجواب في متحف القرآن الكريم هناك في مدينة "بُلغار"، وأنا أجوب بين مئات المخطوطات والمصاحف التأريخية القديمة، في ذلك المتحف المبني على أحدث طراز، وهي فرصة لأدعو محبي المخطوطات القديمة لزيارته، فبهِ أكبر مصحف مطبوع في العالم، ومئات المخطوطات والمصاحف الأثرية، وأنا أجول بتؤودة واستمتاع، أدلّ على رفقتي وأنا أقرأ لهم تلك الخطوط العربية القديمة، التي تستعجم عليهم؛ إذا بي أقع على نسخ قديمة جداً بخط اليد للمصحف الشريف، من بينها "مصحف قازان"، المختلف على تأريخ طباعته، وإذا مكتوب على غلافه بأنه طبع عام 1803 للميلاد، وابتهجت وقمت بتصويره وإرساله من فوري للصديق د. محمد السعيدي، وكان بودي معرفة رقم بعض الباحثين الذين قرأت لهم ممن تصدوا لتأرخة طباعة المصحف أمثال أستاذنا د. يحي جنيد ساعاتي الذي كتب في بحث له أن مصحف قازان بتاريخ 1848م.
ومن جميل القدر عليّ أن الإخوة في مدينة قازان حجزوا لي في فندق، كان دار الطباعة القديمة بالأصل، وجدّدوه -بعد انهيار الشيوعية- على شكل غرف وأجنحة فندقية رائعة، وبثوا في رواقاته وممراته بعض آلات الطباعة القديمة التي ورثوها عن المبنى، وألصقوا في جدرانه ما طبع من رسائل وكتب وأغلفة مجلات، حيث ترى صور لينين بقبعته الشهيرة، وستالين بشاربه الغليظ، وبقية طغمة الاتحاد السوفيتي، ورأيتني وأنا أجوب بين آلات الطباعة البدائية تلك، أتأمل بكل استمتاع الصور، أمام دهشة أصدقائي.
وحرصت على لقاء الدكتورة "ريزيديا صفي الله"، وهي أكاديمية نابغة بالجامعة الإسلامية في قازان، أمضت سبع سنوات كاملات في رسالة الدكتوراة التي خصصتها عن الكتب العربية المطبوعة في تتارستان، وكانت جلسة علمية ثرية معها، سأتحدث بالتفصيل عنها في كتابي عن هذه البلاد، وملخص رسالتها أن اللغة العربية كانت لغة العلم والثقافة والأدب في هذه الأصقاع، قبل أن تلغي الشيوعية الحروف العربية عام 1927م، وأن المناظرات العلمية والنقاشات الدينية كانت لا تتم إلا باللغة العربية فقط، دلالة على نبوغ المتحدث، وأنه طبع في تتارستان بتلك الفترة حوالي 4000 كتاب وأكثر باللغة العربية، أحصتها أختنا الدكتورة بأسمائها، ونحن نتحدث عن منتصف القرن الثامن عشر وبداية القرن الذي يليه، وأعطتني كتباً لها باللغة الروسية تتحدث عن رسالتها، وألفيت أمهات الكتب في الدين واللغة والأدب والفلسفة مطبوعة هناك، من الأئمة الأربعة مروراً بالغزالي وابن رشد وحتى ديوان المتنبي.
كم أتمنى أن تنبري إحدى جامعاتنا لتخصيص رسائل علمية لبعض طلابها، تبحث عن أمجاد اللغة العربية هناك بتلك البلاد، بدلاً من عناوين الرسائل المستهلكة المكرورة، وإلى لقاء مع ما شاهدت في تلك البلاد المثلجة.
المصدر: صحيفة أنحاء الالكترونية