قالت الزهراء (ع): (أصبحت والله عائفة لدنياكن، قالية لرجالكن، لفظتهم بعد أن عجمتهم، وشنئتهم بعد أن سبرتهم، فقبحاً لفلول الحد، واللعب بعد الجد، وخور القناة وخطل الرأي، وبئسما قدمت لهم أنفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون).
من مميزات هذه الخطبة:
أنها مركزة تركيزاً واضحاً على قضية الخلافة والإمامة بعد رسول الله (ص)، فالخطبة الفدكية التي احتجت بها على أبي بكر بحظور المهاجرين والانصار في مسجد النبي(ص)، وهي أشبه بدورة معارف عامة في الدين الاسلامي الحنيف، وعن صفات الله عز وجل وقضايا التوحيد، وتتعرض لحال العرب قبل الإسلام وكيف ان الله أنقذهم برسول الله، وتتحدث عن تاريخ الدعوة الإسلامية وكيف ان أمير المؤمنين علي بن ابي طالب(ع) كان المحور فيها، ثم تنتهي بالإحتجاج عليهم ببيان بليغ، ثم تستنهض الأنصار وتستفز فيهم عهدهم وبيعتهم لرسول الله في الدفاع عنه وعن أهل بيته.
أما الخطبة الثانية في نساء المهاجرين والانصار، فهي بشكل خاص ومحدد حول إمامة أمير المؤمنين (ع) وحول إدانة وتقريع الانصار والمهاجرين على حد سواء عندما لم ينهضوا لنصرة أمير المؤمنين (ع) وحول الخطيئة التي ارتُكِبَتْ عندما أُبعد أمير المؤمنين(ع) عن الخلافة.
فلما استقر المقام بنساء المهاجرين والانصار في بيت الزهراء(ع) سألنها كيف أصبحت يابنت رسول الله(ص)، فردت الزهراء (ع) بهذه الخطبة:
(أصبحت والله عائفة لدنياكن قالية لرجالكم لفظتهم بعد أن عجمتهم وشنئتهم بعد أن سبرتهم)
ومعنى ذلك أنها سلام الله عليها أبغضت هؤلاء الرجال بعد اختبار وتجربة، لأنهم أمروا بمودة قربى الرسول(ص) ولكنهم فشلوا في اول امتحان لهم، وأمروا بطاعة أمير المؤمنين (ع) بعد أن بايعوه بالولاية في يوم الغدير، قاموا بالتنازل عن بيعتهم وترك الامام علي(ع).
وتعقب على ذلك: (فقبحاً لفلول الحد، واللعب بعد الجد، وخور القناة، وخطل الرأي، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون)
فهذه من صفات بعض المجتمعات والفئات التي يكون فيها معدل العواطف عال ولكنهم حين الإرادة والعمل لا يكون لديهم موقف وكأنهم يشابهون ما قاله الفرزدق في توصيف أهل الكوفة عندما قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك.
بعد ذلك قالت سلام الله عليها: (ويحهم أن زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الوحي الأمين، والطبين بأمر الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين)
فهنالك إشارة إلى ذلك الخط القريشي المناوئ لأمير المؤمنين (ع) عندما قالت زحزحوها، فالزحزحة ليست بالشيء البسيط وإنما تحتاج إلى بذل مجهود.
وتكمل الزهراء (ع) فتقول: (والله لو تكافّوا عن زمام نبذه رسول الله إليه، لاعتلقه ولسار بهم سيراً سجحاً، لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً، تطفح ضفتاه، ولأصدرهم بطاناً، قد تحرى بهم الري، غير متحل منهم بطائل، إلا بغمر الماء، وردعة سَورة الساغِبْ).
ومعنى ذلك أنهم لو كفّوا عن الشيء الذي أعطاه الرسول (ص) لأمير المؤمنين (ع) وهو الزمام والقيادة لتغيرت الأمور (ولسار بهم سيراً سجحاً) أي متسلسل وهادئ وهانئ، (لا يكلم خشاشه ولا يتعتع راكبه)، أي لا ينجرح فيه الإنسان، (ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً)، وهذا تعبير عن حسنات الشريعة الإسلامية وخيراتها ونعيمها وبركاتها، (ولأصدرهم بطاناً قد تحرى بهم الري) وهذا تشبيه بالدليل الذي يعرف مناطق المياه في الصحراء حتى لا يعطش ويهلك من معه، وهو يأخذ الشيء القليل منه (بغمر الماء) أي القدح الصغير.
وبعد ذلك تقول عليها السلام: (ألا هلم فاسمع وما عشت أراك الدهر عجباً، فقد أعجبك الحادث، إلى أي سناد استندوه، وبأي عروة تمسكوا، استبدلوا الذناب بالقوادم والعجز بالكاهل)
تشبه الزهراء (ع) ذلك بالطيور التي لديها انواع مختلفة من الريش حتى يسهل عليها عمليه الطيران، فقوادم الطير أي مقاديم ريشه، وهي عشر في كل جناح يطير بها، وأما ريش الخلف يسمى الذناب، فكذلك هو حال الأمة عندما قالت الزهراء (ع) انهم استبدلوا الذناب بالقوادم، أي استبدلوا من لا يستحق الخلافة بأمير المؤمنين، الذي كان من المفترض ان يكون في المقدمة ويكون قائد الامة .
تكمل الزهراء قولها: ( أما لعمر الهكن لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا ملئ القعب دماً عبيطاً وذعافاً ممقراً، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب ما أسس الأولون)
أي ان الفتنة والمشكلة والمرض قد حصل وأصبح عليّ جليس بيته، فمهلاً وانتظروا حتى تنتج، فقدت شبهت الزهراء (ع) نتائج هذه الخلافة التي اخذوها من امير بالمؤمنين بالناقة الوالدة التي تنتج لبناً بعد الولادة، ولكن نتائج هذه الخلافة بدل من أن تكون لبناً ستكون دلواً كبيراً من الدم العبيط والسم القاتل السفاك، فلما تصل القضية لبني أمية ويقول الخليفة: لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل، ويأتي أشباه هؤلاء حينها (سيعرف التالون غب ما أسس الأولون).
وتواصل السيد الزهراء قولها: (ثم طيبوا عن أنفسكم نفساً واطمئنوا للفتنة جأشاً وأبشروا بسيف صارم وهرج شامل وسطوة معتد غاشم واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيداً وزرعكم حصيداً فيا حسرتا عليكم وأنّا بكم وقد عُميتْ عليكم، أنلزمكموها وأنتم لها كارهون)، ثم امسكت.
أي أن النبي (ص) أدى ما عليه من التوصيات لخلافة أمير المؤمنين علي (ع)، وكذلك الإمام علي (ع) كان يشير إلى نفسه ويتقدم إلى الأمر، ولكن الأمر لن يكون بالقوة والغصب ما دمتم كارهون لخلافته.
فأعادت النساء قولها (ع) على رجالهن، فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الامر من قبل أن نبرم العهد، ونحكم العقد، لما عدلنا إلى غيره،
فقالت الزهراء (ع): (إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم).
فالشاهد في كلام الزهراء (ع) أنها تقول لهم انتظروا حتى تروا ما سيكون عليه حال الأمة بعد ذلك، وصدقت سلام الله عليها، فالإنحراف من البداية ولو كان شيئاً بسيطاً فإنه يمتد وكلما صعد في عمود الزمان ابتعد وزاد في الإنحراف، فأنتج ذلك دماءً ودماراً ووصل الامر إلى أن هذه الامة تتشفى بقتل ابن بنت نبيها رسول الله (ص) وتتعدى على آل بيت رسول الله وتتبعهم بالقتل والسبي، كما قالت السيدة زينب(ع) مخاطبة الطاغية يزيد: ( أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك ودماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبدين وجوههن يستشرفهن أهل المناهل والمناقل وينظر إليهن الشريف والوضيع والصغير والكبير ليس لهن من ولاتهن ولي ولا من حماتهن حمي (.
لعن الله ظالميك وغاصبي حقك يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله.
إقرأ أيضا: فاطمة الزهراء في ذكرى استشهادها..مكانتها عند النبي وآله (عليهم السلام)