لربما كانت الأجواء الروحية والمعنوية هي التي تجذب عشرات الملايين من أنصار وأتباع اهل البيت (ع) ومن المذاهب الاسلامية الاخرى، بل وحتى بعض أتباع الاديان الأخرى يأتون سيراً على الاقدام، في مراسم عبادية ذات صبغة روحية ومعنوية، لكي يزوروا مرقد الامام الحسين (ع) ويتزودوا من نفحاته المعنوية.
منذ سنين طويلة [ 1973 فما بعد] وُفّقتُ للمشاركة والحضور في هذه المراسم التي كانت المشاركة فيها مقتصرة على بضعة الاف من الاشخاص (معظمهم من النجف الاشرف) دون اي كاميرات ولا خدمات ولا مواكب منصوبة على جانبي الطريق الرابط بين النجف الاشرف وكربلاء المقدسة سوى وجبة طعام في مناطق (خان الربع و خان النص وخان النخيلة).
في عام 1977م خرجت انتفاضة كبرى من النجف الاشرف، في تظاهرات تجسد التحدي بعد اعلان حكومة حزب البعث الصليبي عن منع المشاية والتهديد الصارم بقمع المشاركين في المسيرة التي كان البعض يسميها (البياده بالباء المثلثة) .
لقد خرجت جموع غاضبة وخاضت مواجهات بالهراوات والقبضات مع شرطة النظام البعثي الظالم وجلاوزته المدججين بالاسلحة النارية والبيضاء، وكان المنتفضون يحملون راية كبيرة مكتوباً عليها [يد الله فوق ايديهم].
أصدرت حكومة البعث الصليبي أوامر بسحق الانتفاضة، وبعد محاصرة المسيرة في منطقة "خان النخيلة"، تم اعتقال عدد كبير من المتظاهرين وإيداعهم في سجن الرشيد العسكري في العاصمة بغداد، وصوّرت الانتفاضة في إعلام النظام بأنها محاولة لقلب النظام مدفوعة من جهات أجنبية، حيث إن وساطة بعض العلماء باتت غير نافعة، فخضع المسجونون - وكان عددهم ما يقارب الـ 30 ألف سجين- إلى صنوف التعذيب لغرض انتزاع الاعتراف منهم، وأخيراً أصدرت السلطات أحكاماً قضائية في 25 شباط بالإعدام لثمانية من قادة الانتفاضة ومحركيها، وهم الشهداء: جاسم صادق الإيرواني، يوسف ستار الأسدي، محمد سعيد البلاغي، ناجح محمد كريم، صاحب رحيم أبو كلل، عباس هادي عجينة، كامل ناجي مالو، غازي جودي خوير.
كما حكمت على 16 آخرين بالسجن المؤبد، بينهم آية الله السيد محمد باقر الحكيم، وقتل بعض المعتقلين تحت التعذيب أو في داخل الزنزانات، وبحسب المراقبين كانت الأحكام معدّة سلفاً في مجلس قيادة الثورة الحاكم ، ومن قبل نائب الرئيس آنذاك صدام حسين بالتحديد.
والمؤسف ان هذه الانتفاضة البطولية لايكاد يذكرها الكتّاب والصحفيون والمشاية الحاليون، رغم أنها كانت أول تحدٍّ للنظام البعثي وظلمه وبطشه، بحيث استخدمت الحكومة طائرات الميغ 17 و21 واستقدمت الفرقة المدرعة العاشرة من [المحاويل والتاجي] لمواجهة الزائرين واعتقالهم. واعترف بها النظام في وسائل الاعلام الرسمية رغم حرصه الشديد على التكتم على اي تحركات شعبية ضده.
ومنذ سقوط النظام الظالم اتسع نطاق المسيرة الحسينية وأخذ يشارك فيها الملايين ، وصدرت دعوات -وما زالت- تدعو للاستفادة من وجود هذه الحشود الشعبية المؤمنة المليونية من قبل الحوزات العلمية والمثقفين الرساليين، بما ينفع المشاركين بالفوائد المعنوية [فضلا عن الموائد الغذائية السخية] من أجل تعلّم المسائل الشرعية ، ونبذ العادات السيئة، والبدع المشوهة، وترسيخ ثقافة اهل البيت (ع)، ونشر الثقافة القرآنية، وتقوية الوعي بأهداف ثورة الحسين (ع) ورسالة جده المصطفى (ص)، وبناء الشخصية الرسالية المتعمقة في حب أهل البيت (ع) ، وإحياء المراسم عن بصيرة ومعرفة، لا عن حب سطحي وعاطفة قشرية.
بقلم: رعد هادي جبارة
باحث إسلامي