ما أن ذاعت محطات التلفزة فجر الاربعاء 8 يناير/كانون الثاني2020 خبر ضرب قاعدة عين الاسد الاميركية بالصواريخ الايرانية ردا على اغتيال اميركا قائد قوات القدس الشهيد الفريق قاسم سليماني، فتصاعدت أسعار النفط والذهب في مقابل تراجع الاسهم الاوروبية والخليجية، حيث صعد خام برنت الى أعلى مستوى منذ 4 اشهر في 8 يناير/كانون الثاني الجاري، وقفز الذهب فوق 1600 دولار للاوقية.
وبحسب بيانات الأسواق مع نهاية جلسة الأحد -أولى جلسات التداول بعد حدث اغتيال الشهيد الفريق سليماني- تراجعت بورصة مصر بنسبة 4.43%، كما هبطت بورصة دبي بنحو 3.06% وانخفضت بورصة الكويت 2.68%.كما انحدرت بورصة السعودية بنحو 2.42%، ونزلت بورصة البحرين وقطر وأبوظبي والأردن ومسقط بنحو 2.26% و2.14% و1.42% و0.53% و0.3% على التوالي.
وتنفست الاسواق الصعداء بعدما فرضت ايران معادلة الردع مع اميركا التي أحجمت عن الرد، لتاكدها أن مصالحها بالمنطقة ليست بمنأى عن نيران الصواريخ الباليستية، فآثرت الاخيرة الصمت واللجوء لسياسة الضغوط القصوى المتبناة من قبل الرئيس دونالد ترامب، حيث فرضت الخزانة الاميركية "عقوبات" على مسؤولين ايرانيين وشركات الصلب الايرانية التي تعد من المصادر الرئيسة للعملة الصعبة، بعد الضربة مباشرة.
محللون كثر توقعوا أن من ارتدادات هذا الهجوم الذي لم تعشه اميركا منذ فجيعة هجوم "بيرل هاربر" عام 1941، ستنعكس بداية على سعر الصرف وتحديدا عبر تراجع الريال الايراني امام الدولار لمستويات قياسية، وهذا لم يحدث خلافا للتوقعات وذلك بادارة البنك المركزي الايراني للازمة برشادة، حيث حافظ على ضخ العملة بالسوق الحرة بموازاة دعم السلع الاساسية بسعر رسمي للدولار الاميركي.
فما دور تغير المعادلات الامنية العسكرية في المنطقة بالاوضاع الاقتصادية في ايران الذي تواجه حصارا هو "الاقسى بالتاريخ" بحسب تعبير الرئيس الاميركي نفسه؟
إثر انسحاب اميركا من الاتفاق النووي بشكل أحادي، خيمت أوضاعا اقتصادية صعبة وتحديات لايمكن انكارها على الاقتصاد الايراني، حيث مارست واشنطن ضغوطات قصوى على شركاء ايران التجاريين في اوروبا وآسيا سيما الدول الموردة للنفط الايراني في محاولة لـ "تصفير" الصادرات النفطية لعدوتها اللدودة، وبالتالي تأثر تدفق العملة والتحويلات المالية حتى مع ثاني أكبر شريك تجاري لايران في المنطقة الا وهي الامارات.
وانصاعت الامارات للضغوطات الاميركية وضيقت الخناق حتى على الصيرفيين الايرانيين على أراضيها، وسرعان ما عدلت عن هذا المذهب وسمحت لمكاتب الصيرفة تابعة لايرانيين العمل في دبي، بل حتى وسطاء تابعين لشركات صيرفة تتبع البنوك الايرانية.
التحول الاماراتي ذو دلالات، وجاء بعد إدراك الامارات أن الامن الاقليمي لايتوفر بمجرد الاتفاقيات الامنية مع الولايات المتحدة، وذلك بعدما استفاقت على احداث الناقلات النفطية في مياهها الاقتصادية مايو/أيار الماضي، ما دفعها لضرورة مراجعة الموقف وتعزيز العلاقات الدبلوماسية وضمان أمن مياه الخليج الفارسي، وذلك عبر ايفاد وفد عسكري إماراتي إلى طهران لبحث قضايا التعاون الحدودي بين البلدين.
وانعكس هذا التقارب على سعر صرف الريال حيئنذ، حيث شهدت تلك الفترة استقرارا نسبيا لعملة الريال، فيما حافظت الامارات على عدم قطع التجارة مع ايران، وكثاني أكبر مورد للسلع الايرانية بعد العراق.
الامارات الهادفة للتحول لمركز مالي عالمي اقليمي، اقتنعت أن هذا الحلم لايتحقق سوى بالتعاون الاقليمي ونبذ التوتر مع دول الاقليم سيما ايران، وترسخت هذه القناعة بعد عدم تواني ايران باسقاط طائرة درون اميركية من طراز غلوبل هوك في يونيو/حزيران 2019.
والاستدارة لم تقتصر فقط على الامارات، بل حتى السعودية اقتنعت أن التوتر لايخدم مصالهحا إقليميا وواجهت ضربة يمنية موجعة بقصف درون استهدف معملين تابعين لشركة ارامكو العملاقة، أفقدتها نصف الانتاج في 14 سبتمبر/أيلول الفائت.
السعودية والامارات تدركان أن اقتصادهما هلاميان، لايمتصان التوترات الجيوسياسية بسهولة، بل رأس مالهما هو الامن لاغيره، وهذا لن يتحقق بمعزل عن التهدئة الضرورية في المنطقة الخليجية بين كافة الدول المحيطة.
اما الضربة لعين الاسد، ليست مستثناة من هذه القاعدة، فإيران تعرف أن لامفر من مواجهة المشروع الاميركي بالمنطقة والفكاك من هذا الحصار، فهي بالعكس من دول الجوار تمتلك استقلالية اقتصادية تؤهلها للصمود دون هوادة. عين الاسد ستفتح الاعين بالتأكيد وستولد ضغوطات على الادارة الاميركية حتى من أقرب حلفائها بان كثرة الضغط تولد الانفجار والانزلاق لحرب شاملة قد تطيح باقتصادات وتغير المشهد الجيوسياسي برمته.
وترسخت في عقيدة ايران الدفاعية وحتى الاقتصادية، أن مواجهة الاخطار أقل كلفة من تداعيات الخطر نفسه وهواجسه. فضرب عين الاسد ليس ببعيد، حيث إن ربما لو كانت آثرت ايران الصبر الاستراتيجي ولم ترد على مقتل الشهيد سليماني الى حين، لكانت قد فرضت اميركا معادلات جديدة يجعل الرد أعلى كلفة، ولكن ايران أخذت زمام المبادرة على حين غرة وأحرجت الولايات المتحدة. فهذا الدرس برعت فيه طهران وستسقطه على الاقتصاد ايضا.. فلمواجهة أجدى من حالة اللاحرب واللاسلم.