إذاً ماذا كانت ماهيّة هذه الثورة الصانعة للتاريخ والمفصليّة التي أحدثتها شهادة الحاج قاسم سليماني؟
أوّلاً: الثّورة حيّة
من بين العناوين العريضة لحرب أعداء الجمهورية الإسلاميّة النفسيّة والسياسيّة طوال هذه الأعوام التّرويج لنظريّة "موت الثّورة". العدوّ الخارجي، وأذنابه في الداخل وبعض العملاء له لطالما صرّحوا بأنّه بعد مرور 4 عقود على انتصار الثورة الإسلامية ومع التطوّرات والحداث الواقعة في المجتمع، لا وجود حقيقيّ وخارجي لمخلوق حيّ يُدعى "الثورة الإسلاميّة".
وضمن هذا المسار الدعائي والترويجي الذي انخرطت فيه بعض الشخصيات المنظّرة ودعمته بالفكر والمضمون كان الادّعاء بأنّ المبادئ والقيم والنهج السائد على ثورة الشعب الإيراني قد اندثرت وما بقي هو مجرّد نظام سياسي بعيدٍ كلّ البعد عن القيم.
من جهة أخرى كان الادّعاء دائماً بأنّ الناس أيضاً قد تخلّوا عن المبادئ والأصول والأهداف الثوريّة وباتوا يسعون وراء أهداف ونمط عيش ومطالب مختلفة؛ والمطالب لا تندرج ضمن أهداف وقيم الثورة الإسلامية بل قد تناقضها.
لكن كلّ النظريّات والأقاويل انمحت وزالت في رمشة عين بعد حادثة استشهاد الحاج قاسم سليماني.
فمشاركة الناس المليونيّة ومنقطعة النظير في مراسم تشييع الشهيد وأيضاً تجمّع الحشود الشعبيّة في مختلف أنواع المسيرات والبرامج التي أقيمت أعلنت للعالم أجمع بمنتهى الحزم أنّ الثورة الإسلامية لا تواصل حياتها فقط كظاهرة إنسانيّة حيّة بل إنّ الناس أيضاً صامدون ومتمسّكون بمبادئ وأصول وقيم هذه الثّورة ويدعمون استمرار النهج الثوري في البلاد بشكل شامل وبكلّ صلابة. الحقيقة هي أنّ الحاج قاسم سليماني لم يكن مجرّد شخص بل كان بمثابة "رمز".
لقد كان رمز وتجسيد التمسّك بالمبادئ الثوريّة، والتمسّك بالقيم، والمقاومة والصّمود أمام العدوّ ومكافحة الاستكبار ونظام الهيمنة بشكل جدّي ومتواصل لذلك: لقد كشفت شهادته للعالم كلّه كون الثورة حيّة في البلاد. البعض كانوا يسعون لإظهار أن الثورة في إيران قد زالت، وماتت، وانتهت وبالطّبع فإنّ البعض يسعون أيضاً لحصول هذا الأمر لكنّ شهادته أثبتت أنّ الثورة حيّة.
ثانياً: تفتّح الأعين التي يعلوها الغبار
إحدى حقائق إيران الإسلاميّة طوال هذه الأعوام هي تأثير مؤامرات العدوّ الثقافيّة والدعائيّة في بعض الأشخاص. والحجم الكبير للحرب النفسيّة والهجوم الفكري والثقافي كان قد أدّى شئنا أم أبينا إلى تسمّم فكري وثقافي وبالتالي نجم عن ذلك بروز آثار سيّئة على المستوى السياسي والاجتماي.
الحرب الناعمة والتغلغل والهجوم الإعلامي الواسع شكّل حقيقة سعي العدوّ من خلال إلى صرف أنظار النّاس عن مسار القيم والثوريّة، والعمل على قلب الحقائق، وتقديم صورة مغلوطة حول أوضاع البلاد وتبديل مكان "الشهيد" و"الجلّاد".
من بين العناوين الرئيسيّة لمخطّطات ومؤامرات العدوّ في هذا المجال التي شهدت تعاون ومشاركة بعض الحركات التابعة أو المعارضة في الداخل كانت القضاء على نهج المقاومة الإقليميّة" والتقليل من أهميّة تصدير الثورة الإسلاميّة.
لطالما أوحى العدوّ بأنّ مصالح إيران الوطنيّة تقع على الضدّ من حضورها الإقليمي ودفاعها عن المستضعفين والمظلومين وسائر المسلمين. وقد كان بين الشعارات المطروحة في أحداث أعمال الشغب وإثارة الفتن في الداخل مؤخّراً شعارات تتمثّل في المطالبة بصراحة بعدم الاكتراث لأوضاع العالم الإسلامي مثل فلسطين، لبنان، سوريا والعراق و...
كان يتمّ التحضير لهذه الشعارات والمطالب في البيت الأبيض وغرف الحرب النفسية التابعة للسي آي اي والموساد. رغم أنّ هذا الحراك لم يكن جديراً بالاكتراث من الناحية الكميّة، إلا أنّ السيطرة على الأجواء كانت تؤثّر على بعض النّاس وتترك آثاراً دعائيّة سيّئة. كانت حرب العدوّ النفسيّة تسعى لإيهام الرأي العام لدى الشعب الإيراني بأنّ تواجد الجمهورية الإسلاميّة الإقليمي في المنطقة يكلّف أثماناً باهظة ويقع على النّقيض من المصالح الوطنيّة ورفاهية ورخاء الإيرانيّين.
إلا أنّ الشهادة المفجّرة للتحوّلات -في هذه الجهة من القضيّة غيّرت مجرى القضيّة من أساسها. الحاج قاسم سليماني رمزٌ لفكر وحركة كانت قادرة على التصدّي والصمود أمام "زعزعة المنطقة" و"سلوك الجماعات التكفيريّة الإرهابيّة المفجع" من قبيل داعش.
هذا المسار أفشل مخطّط المستكبرين الرّامي إلى زعزعة أمن البلاد وألحق بالحركات التكفيريّة الإرهابيّة هزيمة من العيار الثقيل وبذلك صان أمن إيران الإسلاميّة أيضاً. الحاج قاسم سليماني بشهادته تكوّنت "صحوة وبصيرة" عامّة وشاملة وقد دُحضت شبهات ومؤامرات العدوّ في هذا المجال؛ في الحقيقة "لقد أزال الشهيد سليماني الغبار عن الأعين المغبّرة بهذه الشهادة."
ثالثاً: تنامي معرفة العدوّ الملحوظ
الحقيقة هي أنّ ثورة الشّعب الإيراني الإسلاميّة كانت ثورة "ضدّ أمريكا": "عندما انتصرت الثورة في العام 1979 ونضجت ثمارها، كان واقع الأمر أنّ ثمار ثورة مناهضة لأمريكا قد أينعت".
2/11/2011 هذه الثورة لم يمرّ يوماً دون أن تواجه أعداء وعداوات تستهدف مسار تشييدها للنظام وتحقيق أهدافها. العدوّ الرئيسي للنظام الإسلامي كان ولا يزال "نظام الهيمنة" و"الطاغوت الأعظم" المتمثّل في الحكومة الأمريكيّة.
وضمن مستويات أدنى لطالما عادى الكيان الصهيوني المعتدي والمحتلّ، والأنظمة الرجعيّة في المنطقة والحركات المعاندة والمنافقة للجمهورية الإسلامية، ولا يزال هذا العداء قائماً. لكنّ إحدى المخططات الرئيسية والدائمة لهؤلاء الأعداء كانت في الأساس التقليل من أهميّة "العدوّ والعداء".
العدوّ ومن خلال تكراره لمفردة "نظريّة المؤامرة" بشكل مستمرّ كان طوال هذه الأعوام يسعى إلى أن يوهم الشعب الإيراني بأنّ مقولة العدوّ والعداء مجرّد وهم أو كذبة ألّفها نظام الجمهوريّة الإسلامية.
وما أطلق عليه قائد الثورة الإسلامية الإمام السيد علي الخامنئي اسم مؤامرة "تجميل أمريكا" كان يأخذ هذه القضيّة بعين الاعتبار: "إحدى الأعمال التي سعى الأمريكيّون خلال الأعوام الأخيرة لإنجازها تمثّلت بحثّ البعض على تجميل صورة أمريكا؛ بحيث يتظاهرون بأنّ الأمريكيّين وإن كانوا أعداء في يوم من الأيّام، فهم لا يمارسون العداء اليوم؛ الهدف هو هذا.
الهدف هو إخفاء صورة العدوّ عن الشّعب الإيراني لكي يغفل عن عدائه ويتمكّن العدوّ من ممارسة عدائه وغرز خنجره من الخلف؛ الهدف هو هذا."
بيد أنّ حقيقة المشهد هي أنّ عداء العدوّ يتخطّى أيضاً أساس الثورة والنظام الإسلامي ليستهدف الشعب الإيراني: "تكوّن عداء أمريكا للجمهوريّة الإسلاميّة منذ اليوم الأوّل ... كان عداؤهم للثورة ولا يزال، وعداؤهم للشعب الذي قبل هذه الثورة.
يخطئ من يصوّر المسألة بأنّ معاداة أمريكا والنظام الاستكباري كان مع أشخاصٍ محددين الإمام الخميني آنذاك، أو هم كذلك مع علي الخامنئي في الوقت الحاضر المسألة ليست كذلك؛ إنّما كان عداؤهم لأصل هذا المفهوم، ولأساس هذه الحركة، ولهذا التوجّه المصحوب بالصمود والنزوع للاستقلال والعزة، وللشعب الذي آمن بهذه المفاهيم وراح يعمل بها؛ إنّ عداءهم لهذه الأمور...
لقد صرّحوا بأنّهم يعادون ويعارضون الشعب الإيراني. واليوم أيضًا، أيّة حركة أو خطوة تصدر عن الأمريكيّين وحلفائهم ومن لفّ لفّهم إنّما هي لتركيع الشعب الإيراني وإهانته."
وباستشهاد الحاج قاسم سليماني على يد القوات العسكريّة الأمريكيّة وبأمر مباشر من رئيس جمهورية هذا البلد، وقد رأى النّاس جميعاً بوضوح أنّ العدوّ يعادي أساس الصّمود والاقتدار وصون مصالح إيران وأمنها الوطني وأنّه عنيد وشديد في مسار عدائه.
لقد رأى النّاس بمنهى الوضوح أنّ القضيّة ليست مجرّد قضيّة الطاقة النوويّة والصواريخ بل إنّها أساس استقلال وعزّة إيران الإسلاميّة والوطنيّة وأنّ العدوّ بعنفه وقسوته قد استهدف هذه الأمور لأنّ الحاج قاسم سليماني كان المدافع عن استقلاليّة وعزّة وأمن واقتدار إيران الإسلاميّة.
رابعاً: وحدة الإيرانيّين الوطنيّة
من بين العناصر الرئيسيّة في انتصار الثورة الإسلامية والخطوات التي اتّخذت كانت قضيّة وحدة وانسجام الإيرانيّين الوطني لدرجة أنّ الإمام الخميني (قده) صرّح بصفته قائداً لهذه النهضة حول أهميّة هذه المقولة قائلاً: "لقد كان هذا سرّ انتصار إيران؛ التوكّل على الله، لأجل الله ووحدة الكلمة، وحدة الكلمة والهدف والوجهة." صحيفة النّور، المجلّد السادس، الصفحة 337 (بقليل من التأخّر أو التقدّم)
التوحّد حول الأصول والمبادئ والأهداف نتج عنه مزيد من القوّة والاقتدار. طبعاً تعرّض هذا العنصر الرئيسي أيضاً إلى أمواج من مؤامرات ومخطّطات العدوّ وأتباعه. إيجاد أقطاب اجتماعيّة وسياسيّة، إحداث شروخ بين مختلف شرائح الشعب وإحداث الخلافات وسوء الظنّ في الداخل لطالما كانت ضمن العناوين الرئيسيّة الدائمة للأعداء.
وإحدى النقاط الرئيسيّة التي استهدفها العدوّ في أحداث مثل فتنة عام 2009 وأحداث الشغب التي استهدفت الأمن كانت إضعاف الوحدة والتلاحم الوطني في إيران؛ الهدف الذي حقّقه العدوّ إلى حدّ معيّن في بعض المراحل. طبعاً إنّ إضعاف عنصر القوّة الوطنيّة كان يشكّل بدوره أعظم فرصة وأرضيّة للأعداء من أجل تشديد الضغوط كالحظر و... طبعاً كان للتقصيرات الإدارية وبعض أنواع الفشل دور في تشديد هذه الخلافات.
إحدى ثمار وبركات شهادة الحاج قاسم سليماني كانت توحّد الشعب الإيراني إلى أقصى الحدود لأنّ الحاج قاسم سليماني كان قائداً فذّاً ومجاهداً مضحّياً جلب جهاده في الليل والنّهار العزّة والأمن لإيران وللشعب كلّه، لذلك: "ينبغي صون هذه الوحدة بين النّاس التي رأيناها لحسن الحظّ تحت النعش الطاهر للشهيد سليماني والشهداء الذين رافقوه."
خامساً: ضعف وانهزام العدوّ
أمريكا المستكبرة كانت تعتبر اغتيال الحاج قاسم سليماني واحداً من الحلقات الهامّة لإضعاف قوّة واقتدار الجمهوريّة الإسلاميّة وعامل ضعفها وتراجعها وإلحاق الهزيمة بها. لقد توهّم العدوّ في حساباته الماديّة بأنّ بعض الشّكاوى الناجمة عن المشاكل الاقتصاديّة والمعيشيّة والضربات التي يلحقها الحظر غير المسبوق للاقتصاد، فإنّه قد جعل الشعب والحكومة الإيرانيّة في ضائقة وتحت ضغوط وأنّه سوف تزيد ضربة اغتيال شخصيّة كالحاج قاسم سليماني حدّة هذه المشاكل وسوف تكون مقدّمة لانسحاب واضمحلال إيران الإسلاميّة. لكنّ الاغتيال الخبيث وسفك دماء هذا المجاهد والمقاتل الشهم والشجاع غيّر المعادلات على أرض الواقع.
هزمت التجلّيات الوطنيّة والشعبيّة لهذه الحادثة المعادلات الماديّة للمستكبرين ضمن مقياس منقطع النّظير وشهد المشهد السياسي في إيران، المنطقة والعالم تطوّراً رئيسيّاً صبّ في صالح الجمهوريّة الإسلاميّة والشّعب الإيراني. فالقوّة والتلاحم في الوطن وخارجه التي جاءت نتيجة لاستشهاد الحاج قاسم كانت بحيث مهّدت لحركة واسعة وهامّة في الرّد على العدوّ ضمن مختلف المستويات. الآن وضمن خطوة تاريخيّة تشنّ الجمهورية الإسلاميّة هجوماً صاروخيّاً كثيفاً وتلقّف العدوّ ضربات قاسية ثمّ تعتبر هذه الضّربة القاسية مجرّد "صفعة": " الانتقام قضيّة أخرى! وقد تمّ على كلّ حال توجيه صفعة
وما يهمّ في مسألة الرّد -وهذه الأعمال العسكريّة بهذا النّحو ليست كافية هو أنّه يجب إنهاء الوجود الأمريكي المُفسد في هذه المنطقة وفي النّقطة المقابلة أمريكا عاجزة عن الرّد العسكري. هذا الحدث في حدّ ذاته شكّل نقطة مفصليّة تاريخيّة في تغيير الهندسة العالميّة.
في ظلّ هذا الاقتدار الوطني، أخذت الجمهورية الإسلاميّة بشكل رسمي على عاتقها التحدّث بخطاب واستراتيجيّة "طرد أمريكا" من منطقة غرب آسيا حيث لاقى هذا الخطاب من الشّعوب والحركات الثوريّة والإسلاميّة كلّ الترحيب. فها هم المجاهدون في العراق، لبنان واليمن و..إلى جانب الجمهورية الإسلامية في هذا الخطاب وهذه الاستراتيجيّة وقد سقطت هيبة أمريكا بصفتها رأس نظام الهيمنة والقوّة الماديّة الأعظم في العالم وكان الأمر على هذا النّحو بأنّ "الأعداء شعروا بالخضوع أمام عظمة الشعب الإيراني؛ قد لا يُظهروا ذلك لكنّهم مجبرون على ذلك."
بركات الروحانيّة والإخلاص
إنّ إلقاء نظرة بصيرو إلى هذه البركات والثّمار الخارقة للعادة يجعل أمامنا بوضوح تامّ هذه النتيجة بأنّ ما يحصل لا يُمكن تحليله ضمن إطار الحسابات الماديّة. "لقد قامت القيامة بعد استشهاد الحاج قاسم سليماني." وبالفعل لقد تحوّلت هذه الشهادة إلى "ثورة صانعة للتاريخ". وفي جملة واحدة "لقد جعلت روحانيّته شهادته تبرز بهذا النّحو."
إنّ إنجازات وفي الحقيقة "بركات دماء" استشهاد الحاج قاسم سليماني نابعة من "الروحانيّة والإخلاص" منقطع النّظير. لقد كان متربّياً في مدرسة الإمام الخميني (قده) وجنديّ الولاية المتواضع الذي كان أجر إخلاصه وجهاده وقوع تطوّر رئيسي وتاريخي: " تعرّض الحاج قاسم للشهادة مائة مرة ولم تكن هذه المرة الأولى، لكنه لم يكن يخشى شيئاً في سبيل الله وفي سبيل أداء الواجب وفي سبيل الجهاد، لم يكن يهاب أي شيء، لم يكن يخشى العدو ولا يخاف كلام هذا وذاك، ولم يكن يخشى تحمل المشاق.
لقد كان جهاده جهاداً كبيراً وقد جعل الله تعالى شهادته أيضاً شهادة عظيمة... لو لا الإخلاص لما مالت قلوب الناس هكذا، فالقلوب بيد الله، أن تميل القلوب كلها هكذا فهذا دليل على وجود إخلاص كبير كان ذلك الرجل يتحلى به. أعلى الله من درجاته إن شاء الله."