بسم الله الرحمن الرحيم
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ
ورد في فضل هذه السورة المباركة عن الإمام الصادق عليه السلام، أنه قال:
من قرأ "و التين" في فرائضه و نوافله، أُعطي من الجنة حيث يرضى. (1)
الاطار العام
* ما هو الإطار العام لهذه السورة المباركة؟
- من لا يضع معلوماته في اطار علمي رصين لا ينتفع بها شيئا، و القرآن الكريم يمنحنا ذلك الاطار. أرأيت لو لم تعرف نفسك من انت، ومن أين جئت، و الى أين تذهب، وماذا يُصلحك، وماذا يضرّ بك، كيف تستطيع ان تنتفع بمعلوماتك عما حولك؟ فهل تفيدك معرفة الدواء لو لم تعرف المريض و مرضه؟
و سورة التين تهدينا الى بصيرة الذات؛ و التي هي تمهيد لبصائر الحياة؛ بل هي خلاصته، و هذا هو الإطار العام لهذه السورة المباركة.
قَسَماً بالفاكهتين
* لماذا افتتحت هذه السورة المباركة بالقَسَم بالتين و الزيتون؟
- تفتتح هذه السورة بالقسم (2) بما يصلح اطارا لهذه البصيرة، فما هو التين و الزيتون؟
تتميز الفاكهة عن سائر أنواع الطعام بسهولة تناولها دون معالجة؛ فاللحم لا يستساغ نياً، و الحبوب بحاجة الى معالجة و إعداد؛ بينما العنب - مثلاً- يُجنى و يُؤكل بلا معالجة؛ بينما تتميز أنواع من الطعام بإمكانية تخزينها و بزيادة فوائدها للجسم؛ بيد أن ألوانا من الفاكهة تجمع الى ميزاتها كفاكهة، ميزات الطعام، و ذلك بإمكانية تخزينها و غناها بالمواد الضروريـة للجسد، و منها التين؛ فهي سهلة التناول كأنها قد صنعت بقدر فمك، طيبة المذاق، جليلة الفائدة، تجفف لأوقات الحاجة. (3)
و قد روي عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، في فضلها انه قال: لو قلت ان فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه هي، لان فاكهة الجنة بلا عجم (4)، فكلوها فإنها تقطع البواسير، و تنفع من النقرس.(5)
و كذلك فاكهة الزيتون التي هي من أعظم الفواكه نفعا للجسد و بالذات لان زيتها يعتبر الدهن النادر الذي لا يضر الجسد شيئا.(6)
و جاء في حديث مأثور عن النبي، صلى الله عليه وآله، أنه قال: كلوا الزيتون و أدهنوا به فإنه من شجرة مباركة.(7)
الأرض بعد الطعام
* ماذا أراد بقوله تعالى: ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾؟ و لماذا القَسَم به؟
-في كنف جبل مشجّر تحلو الحياة لما فيه من فوائد و منظر و حماية. من هنا؛ جاء ذكر الطور بعد ذكر طعام الانسان؛ فقال ربنا: ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾.
و قيل في معنى «سينين» الحَسَن باللغة السريانية، و قيل: ان كل جبل ذي اشجار مثمرة يُسمى بسينين؛ فقد قال مقاتل و الكلبي: «سينين» كل جبل فيه شجر مثمر. (8)
السلام بعد الأرض
* أيضا؛ أقسم بالبلد الأمين في قوله تعالى: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾؛ فلم هذا القسم بالتحديد؟
-الصورة تنسجم مع القَسَم بالتين و الزيتون و طور سينين من جهة، و بالبلد الأمين من جهة أخرى؛ حيث قال ربنا سبحانه: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾.
ذلك ان أصول مدنية الانسان؛ هي: الطعام، و الارض، و السلام. فاذا كان التين و الزيتون مَثَلَيْن لأرقى أنواع الطعام، و كان طور سينين مَثَلاً لأحسن الأراضي و أكثرها بركة؛ فان البلد الأمين مَثَلٌ لأفضل البلاد و هي بلاد الأمن، و يتناسب هذا الاطار مع محور السورة المتمثل في خَلْق الانسان بأحسن تقويم؛ ذلك لان تسخير الحياة له، وأن إعداد طعامه و ارضه، و توفير الأمن، وتوفير وسائل المدنية له بعض جوانب حسن صنعه اليه، و جميل عطائه له.
و قد فُسرت هذه الكلمات تفسيرات أخرى لا تتنافى و سِعَة كلمات القرآن و تخومها المتعددة، فقالوا: «البلد الامين»: مكة، شرفها الله و طور سينين: الجبل الذي نادى الله -جلّ ثناؤه - فيه موسى، عليه السلام. أما « التين» فقيل: انه البيت المقدس، او المسجد الحرام، او مسجد دمشق؛ بينما الزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، او ان التين هو مهبط سفينة نوح، عليه السلام، حيث جبل الجودي.
و جاء في رواية مأثورة عن النبي، صلى الله عليه و اله، أنه قال:
ان الله تبارك و تعالى اختار من كل شيء أربعة؛ الى ان قال : و اختار من البلدان اربعة: فقال تعالى : ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ فالتين: المدينة (9) و الزيتون: بيت المقدس، و طور سينين: الكوفة، و هذا البلد. الأمين. : مكة. (10)
قوام الروح
*إذًا؛ كيف ذكر السياق نكسة الإنسان في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ بعد أن رفعه إلى أحسن خلقٍ سوي؟
- قَسَماً بتلك الديار المقدسة، و قَسَما بتلك النعم التي تصنع حضارة البشر {لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم}: خلقا سويا حسنا.
و تتجلى قدرة الله في صنع جسده(11)، من استقامة قامته، الى شبكة أعصابه، الى قدرات مخه، الى مرونة جسمه و ما فيه من قدرة احتمال للظروف المختلفة، مما يدل على انه قد أُعـد لدور أعظم من مجرد دوره الحياتي أو البنائي؛ انه ليس مجرد فرد متطور، انه مخلوق مكرم، سخر الله له الأحياء و النباتات و الطبيعة، فاذا دوره الحقيقي ليس في جسمه و انما في روحه؛ في تلك الومضة المباركة من نور المشيئة التي مُنح من دون سائر الأحياء؛ في ذلك القبس من نور العقل و العلم و المعرفة الذي زُود به و مُيز به عن سائر الخلائق.
وهذا المعنى هو الذي ينسجم مع سياق السورة، فالقوام الحَسَن الذي مَنَّ الله به علـى الانسان ليس تقويم جسده فقط؛ لان هذا التقويم مقدمة لما هو أهـم وهو قوام روحه؛ ولأن المؤمن و الكافر يشتركان فيه، و لا معنى لرد الكفار و حدهم الى أسفل سافلين.
ضيف الله
* مَن المخاطَب في قوله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}؟ و لماذا هذه اللهجة الشديدة في الخطاب؟
- المخاطَب في الآية الكريمة هو الإنسان؛ فإنه قد خُلق ليكون ضيف ربه الأعلى في جنان الخلد؛ ليكون جليس مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ؛ ليكون مِثْل َ ربه العظيم؛ يقول للشيء :كن؛ فيكون؛ ليكون في خط ذلك الانسان الذي يعرج الى ربه و يعرج حتى يكون قاب قوسين أو أدنى.
أجر غير ممنون
* لعل قائلاً يقول : ما دام الانسان قد خُلق في أحسن تقويم؛ فليترك نفسه مع الأقدار تحمله أنّى اتجهت؛ فلماذا يُرد إلى أسفل سافلين كما في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ أليس كذلك؟
- كلا؛ إذ ان ذلك يؤدي به الى أسفل سافلين؛ فلا بد من الوعي و النشاط حتى لا يهبط الى الدرك الأسفل، و مَثَلُهُ في ذلك مَثَلُ الذي يوضع على قمة جبل سامق؛ فتهب عليه عاصفة شديدة؛ان لم يستخدم كل وعيه و قوته و عزمه لطوحت به الى الوادي.
و لكـن هذه الفرصة المباركة التي مُنحت له تنعكس تماماً عندما لا يستفيد منها؛ فيكون كالمتسلّق جبلاً عظيماً إن زلت قدمه هوى الى الوادي السحيق، و ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} الى أين؟ الى جهنم و ساءت مصيرا، حيث يتمنّى لو يكون ترابا.
وهكذا استثنى الذكر « الذين آمنوا و عملوا الصالحات « فقط، و هم الذين يبقون في القمة حيث جعلهم الله؛ فقال : {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}؛لا ينقطع أجرهم، و تتواتر عليهم نعم الله. أَوَليس ربنا لا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً و كرما؟
التكذيب بيوم الجزاء
* مَن المخاطَب في قوله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}؟ و ما المراد بالدين؟
- المخاطَب في الآية الكريمة هو الإنسان، و أراد بالدين الجزاء (12)، و لكن لماذا؟
لا يحتاج أي حيوان الى العناية في أمور حياته بقدر ما يحتاج الانسان.
فالطفل البشري تتضاءل احتمالات بقائه من دون عناية مناسبة قد يظل يعتمد على والديه فترة طويلة؛ كما ان الانسان نفسه لا يملك وسائل دفاعية كافية في مقاومة سائر الأخطار؛ بينما أوتي كل حيوان أدوات كافية للدفاع؛ بينما أوكل هذا الأمر بالنسبة الى الانسان الى عقله و ذكائه؛ كل ذلك يدل على انه مخلوق متحضّر، يحتاج في وجوده و في تكامله الى النظام.
﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾؛ أي: فما الذي يدعوك الى تكذيب الجزاء أيها الانسان؟! ومن دون الايمان بالجزاء لا يمكن ان يبقى الانسان حيث جعله الله في قمة الخلائق؛ كما انه من دون الايمان بالجزاء لا معنى للالتزام بالدين(الشريعة) بينما الدين ضرورة عقلية يهتدي اليها الانسان.
أليس الانسان قد خُلق اجتماعياً فهو بحاجة الى نظام، و أفضل نظام هو الذي يوحي به الرب.
أَوَليس في الانسان فرص التكامل الروحي و التقرب الى الله؟ فهو - إذاً- بحاجة الى رسل و رسالات ينجزون له هذه الفرص.
و من جهة أخرى، ألا تجدون الانسان كيف ينهار الى منتهى الوحشية و الفساد من دون روادع، فيستخدم ذكاءه و قدراته في تدمير نفسه؟! ألم تر كيف نشر الفساد في البر و البحر؟! ألم تسمع أنباء الحروب العالمية؟! أَوَلم تقرأ عما يُعده لنفسه من وسائل التدمير؟! كذلك يشهد على ان هذا الكائن العظيم لا يتكامل إلا بنظام الهي عظيم؛ انه من دون الدين سفينة جبارة بلا ربان؛ طائرة كبيرة بلا طيار؛ فما هو مصيره يا ترى؟!
الجزاء الذي يبلغه
* و لِمَ الاستفهام التقريري في قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾؟
- لولا الجزاء الموعود لكان خلق الانسان عبثاً أو حتى ظلما؛ سبحان الله!
فكيف يتساوى عند الله من يهبط الى أسفل سافلين فينشر الفساد في الارض، و من يتسامى الى قمة الخير و الإحسان؟ إن آيات الله في الخليقة تهدينا الى ان ربنا هو أحكم الحاكمين؛ فتشهد ذلك على انه جعل لهذا الانسان جزاءً يبلغه في يوم الدين و ذلك قوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾.
و جاء في الحديث عن قتادة: وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله، إذا ختم هذه السورة قال: « بلى؛ و أنا على ذلك من الشاهدين «. (13)
تبيين السورة
﴿و﴾: قسماً بفاكهة {التِّينِ وَ}: قسماً بفاكهة ﴿الزَّيْتُونِ وَ﴾: قسماً بجبل الـ ﴿طُورِ﴾ الذي يقع في وادي ﴿سِينِينَ﴾: سيناء؛ حيث نادى الله - جل ثناؤه - فيه النبي موسى، عليه السلام، ﴿وَ﴾: قسماً بـ {هَذَا الْبَلَدِ}: مكة المكرمة ﴿الأَمِينِ﴾: الآمن لمن دخله؛ و جواب القسم: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}: أحسن قوامٍ في جسمه، و في عقله، و في روحه؛ ليكون ضيف ربه الأعلى في جنات الخلد.
{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ}: تركناه إذا لم يستفد من الفرصة المباركة التي مُنحت له، إلى ﴿أسفل﴾: أدنى ﴿سافلين﴾ في نار جهنم، و ساءت مصيرا؛ ﴿إِلاَّ﴾ الذين يبقون في القمة و هم {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَـ} هؤلاء ﴿ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾: غير مقطوع، و تتوالى عليهم نِعَم الله؛ ﴿فَمَا﴾ الذي ﴿ يُكَذِّبُكَ ﴾: يدعوك - أيها الإنسان- أن تكذب ﴿ بَعْدُ﴾ أن ظهرت آيات الله هذه عندك ﴿بـ﴾ يوم ﴿الدِّينِ﴾: الجزاء ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ بأعدل العادلين؟ بلى؛ و من عدله أن جعل لهذا الانسان جزاءً يبلغه في يوم الدين؛ وهو يوم الجزاء؛ و هو يوم القيامة.
-----------------
(1) تفسير نور الثقلين، ج5، ص606.
(2) قالوا : لله - تعالى-أن يُقسم بما يشاء من خلقه، و ليس لخلقه أن يحلفوا إلا به-.
(3) التين من فصيلة التوتيات، يُزرع في بلدان الشرق الأوسط، يُؤكل أخضر و يابساً.
(4) العُجُم : النواة.
(5) تفسير نور الثقلين، ج5، ص607.
(6) الزيتون من فصيلة الزيتونيات، يُزرع في بلدان الشرق الأوسط. يرمز ورقه منذ القدم إلى السلام. و الزيتون اسم الثمر و الزيت دهنه.
(7) تفسير القرطبي، ج20، ص112.
(8) تفسير القرطبي، ج 20، ص112.
(9) أي : المدينة المنورة.
(10) مجمع البيان، ج1، ص512.
(11) يقصد : جسد الإنسان.
(12) لمفردة الدين عدة معانٍ في القرآن الكريم؛ و هي: أصول و فروع الشرائع. الطاعة. الجزاء. الحساب. الحُكْم. دين الملك: شرع الملك. دين الحق: طاعة الحق. يوم الدين: يوم الجزاء. دينهم: جزاؤهم. الدين القيم: الحساب المستقيم. دين الله: حُكْمه.
(13) تفسير مجمع البيان، ج10، ص 512.لأول مرة....طباعة المصحف المنسوب الی رسول الله(ص)
الكاتب السيد جواد الرضوي
المصدر: مجلة الهدى الثقافية