استِقالة السيّد عادل عبد المهدي، رئيس وزراء العِراق، التي تُجسِّد أوّل انتصار للحِراك الشعبيّ ربّما تَكون بدايةً لسلسلةٍ من التّنازلات من قِبَل النّخبة الحاكِمة، ولكنّها ليسَت كافيةً لعودة حالة الهُدوء إلى الشّوارع، وانسِحاب المُحتجّين، لأنّ هذه الاستقالة لم تكُن المَطلب الأساسيّ، وإنّما رحيل كُل الطّبقة السياسيّة الفاسِدة، وإلغاء دُستور بريمر، وإجراء إصلاحات شامِلة تُحَقِّق العدالة الاجتماعيّة وإلغاء المُحاصصة الطائفيّة وكُل إرث الاحتِلال الأمريكيّ مصدر كُل الأزَمات.
عبد المهدي الذي جاء إلى سُدّة الحُكم في تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 2018 لم يَكُن خِيارًا شَعبيًّا، ولم يَكُن مُؤهّلًا لتولّي السّلطة، واختير “كدُمية” من قِبَل التكتّلات الفاسِدة، ولأنّه الأضعف الذي لا يتمتّع بدعم قبيلة أو كُتلة سياسيّة معروفة بهُويّتها الإصلاحيّة، وكانَ مِثل الماء “بلا لون أو طعم أو رائحة”.
تبرير السيّد عبد المهدي لهذه الاستِقالة المُتأخِّرة التي جاءت بعد مقتل 420 مُتظاهِرًا مُسالمًا، وأصابة 15 ألفًا، بالقول بأنّه تجاوب مع طلب المرجع الشيعيّ الأعلى السيّد علي السيستاني حتى إن صَح فإنّه يُعتَبر انتِقاصًا من حق الحِراك الشعبيّ ودوره، وتَقليلًا من إنجازِه الأكبر، أيّ فضح الطّبقة السياسيّة الحاكِمة التي نهَبت ثروات البِلاد، وجوّعت الشّعب، وجعَلت من خُمسِه تحت خط الفقر، وحَرَمَته من الحد الأدنى من الخدمات العامّة، وهو الذي تبلُغ عوائِده النّفطيّة 20 مِليار دولار شَهريًّا على الأقل.
***
السيّد السيستاني كان مُحِقًّا في مُطالبة عبد المهدي بالاستقالة والدّعوة إلى انتخاباتٍ عامّةٍ حَقنًا للدّماء، ولكن المطلوب أكثر من ذلك، أيّ مُحاكمة كُل الفاسدين، واستِعادة أكثر من تريليون دولار جرى نهبَها من ثرواتِ البِلاد وعوائدها النفطيّة على مدى 16 عامًا، وتعزيز الوحدة الوطنيّة، ودولة المُؤسّسات على أرضيّة إلغاء الطائفيّة، وبناء الدولة المدنيّة، والهُويّة الوطنيّة الجامِعة، وإصلاح الجيش العِراقي، وطَرد كُل القُوّات الأجنبيّة وعلى رأسِها القوّات الأمريكيّة.
الذين أطلقوا النّار على المُتظاهرين العُزّل وارتكبوا المجازر لا يجِب أن يَهرُبوا من القَصاص العادل، وعلى رأس هؤلاء السيّد عبد المهدي نفسه الذي يتَحمّل المسؤوليّة الأكبر، ورَضِيَ على نفسه أن يكون أداةً قمعيّةً، وإلا كان عليه أن يستقيل من اليوم الأوّل، فسَفكُ دَمِ المُنتَفِضين السّلميين من المُحرّمات، ومن أكبر الكبائِر.
نستغرب وجود تلك الأصوات التي تُحاول تبرئة أمريكا وحُلفائها العرب من مُحاولةِ اختِراق الحِراك الشعبيّ، وحَرفِه عن مساره، بهدف تدمير الدّولة العِراقيّة، وإشعال فتيل الحرب الأهليّة، لمنعِها من استعادة مكانتها الرّياديّة والقِياديّة في المِنطَقة، والوقوف في خندق محور المُقاومة، والانتصار لقضايا الأُمّة العادِلة وعلى رأسِها قضيّة فِلسطين، فجميع مصائب العِراق تعود إلى الاحتلال الأمريكي، وبمُشاركة وتَواطُؤ الذين عادوا إليه على ظهر دبّاباته، ووصلوا إلى سُدّة الحُكم عبر العمليّة السياسيّة التي وضَعوا أُسسها الطائفيّة المُفرِّقة الطّامسة للهُويّة الوطنيّة الجامِعة، ولن تَغفِر لهُم مُحاولاتهم الإيحاء بغير ذلك وتشويه مُوجَة المُقاومة.
العِراق الوطني واللّاطائفي الخالِ من الفساد، ورُموزه، والقائم على المُساواة والعدالة الاجتماعيّة والقضاء المُستقل والجيش القويّ لا يتناقض مُطلَقًا مع محور المُقاومة، ويُشَكِّل النّقيض لكُل مُحاولات الهيمنة الأمريكيّة، وسَدًّا في وجه أيّ نُفوذ خارجيّ ، لأنّ هذا العِراق ضِد المشروع الأمريكيّ الإسرائيليّ، مثلما كان دائمًا، باستثناء السّنوات السّوداء العِجاف التي عاشَها تحت الاحتلال الأمريكي وحُكم من جاءَوا على ظهر دبّاباته، وفي إطار ديمقراطيّةٍ مَغشوشةٍ ومُضلِّلة.
وحتّى إذا سلّمنا جدَلًا بأنّ هُناك حالة اختراق أمريكيّ للحِراك، فإنّ السيّد عبد المهدي وأمثاله ليسُوا الأشخاص المُؤهّلين للتصدّي لها، لأنّهم وُلِدوا من الرّحِم الأمريكيّ، وكانوا أحد أبرز أدواته، إذا كان هذا الحِراك، ضِد النّفوذ الأجنبي وتَغلغُله في العِراق، بعد أن تحوّلت البِلاد إلى ساحة صِراع وتنافُس بين النّفوذين الإيرانيّ والأمريكيّ، وهذا تَوصيفٌ صَحيحٌ لا جِدال حوله، فإنّ هُناك من يطرَح سُؤالًا جَوهَريًّا تقول مُفرداته: لماذا لا يتم حرق المصالح الأمريكيّة في العِراق جَنبًا إلى جَنبٍ مع القُنصليّات الإيرانيّة أيضًا؟ لماذا لا نسمَع من يُردِّد شِعار “أمريكا برّة برّة أيضًا”، مع التّأكيد أنّنا مع السلميّة، وضِد العُنف بكافّة أشكاله.
***
اندلاع شرارة الحِراك وفعاليّات ضِد الفساد والنّخبة الحاكمة في النّجف وكربلاء والعمارة والناصريّة والبصرة وكُل مُدن الجنوب العِراقي الأبيّ، يُصَحِّح صُورةً خاطئةً وزائفةً عن هذه المُدن وأهلها الوطنيين وانتِماءاتهم العربيّة وهُويّتهم الإسلاميّة النقيّة التي حاول من جاءوا على ظهر الدبّابات الأمريكيّة رسمها وتعميقها طِوال السّنوات الـ16 الماضية، وهذه الظّاهرة تَصُب في مصلحة نُهوض العِراق الجديد الحقيقيّ واللّاطائفيّ والوطنيّ.
البديل عن حُكومة السيّد عبد المهدي المُستقيلة رُضوخًا لمطالب الحِراك هو إلغاء دستور بريمر فَورًا، ووضع دستور جديد وطني جامع وغير طائفي، والدّعوة إلى انتخابات نيابيّة عامّة ستَأتي حتمًا بقِوى تعكِس حالة التّغيير التي فرضتها دِماء الشّباب الثّائر وأرواح شُهدائه، وتَكنُس كُل رموز الفساد والمُحاصصة الطائفيّة والعمليّة السياسيّة الأمريكيّة، والديمقراطيّة المَغشوشة التي انبَثقت عنها، وتُؤسِّس للعِراق الرّائد القائِد والرّقم الوطنيّ الصّعب في المِنطقة بأسرِهَا.. والأيّام بيننا.
بقلم عبد الباري عطوان
المصدر: الرأي اليوم