بسم الله الرحمن الرحيم
(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4))
تسوية الخلق
* ماذا أراد بالتسوية في الآية الكريمة؟
- ما الذي يدعونا الى تسبيح الله وتقديسه؟
حينما يرفع الانسان عن عينيه غشاوة الغفلة، وعن إرادته حجب الجحود، وينظر الى ما حوله في أبعاد الكائنات، ويستمع الى همساتها، ويندمج مع إيقاعات تسبيحها، ويلتقط إشارات حركتها؛ هنالك ينتقل الى آفاق معرفة ربه؛ فلا يتمالك الا ان يسبح بحمد ربه.
انه يرى سماء حفيظة تحيط به، وأرضا وديعة تحمله وتتذلل له، وكائنات نباتية وحياتية تنشط بين أرجاء الارض وآفاق السماء؛ كل منها خُلِق بصورة مختلفة عن نظيراتها؛ ولكنها - جميعا - تتناغم وكأنها فرقة انشودة؛ من أبعد نجمة الى أصغر ذرة، من أضخم شجرة الى أصغر نبتة، من الحوت حتى أصغر سمكة، من الفيل حتى أنعم حشرة، من العقاب حتى البعوضة؛ كلها وكلها قد خُلقت بدقة متناهية.
هل سمعت نبأ الذرة التي لا ترى، وكيف بنى الله في عالمها الكبير الصغير مملكة عظيمة؟ لو قستها بالمجرة التي لا نستطيع ان نتخيل عظمتها لرأيناهما قد خُلقتا جميعا بقدر عظيم من الدقة والتنسيق؛ ولكن المجرة هي - في الواقع - مجموعة عظيمة من الذرات، وهي ذات الحقيقة تتجلى مرة في شكل ذرة ومرة في صورة مجرة.. وما بين الذرة والمجرة ملايين الملايين من المخلوقات المتنوعة، قد خلقها الله خلقا سويا في ذاتها، وقدر لكل واحد منها هدفا ومسيرة، وهداها الى هدفها ومسيرتها، وكذلك قال ربنا العزيز: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾.
الخلق قد يكون بمعنى الإنشاء او الصنع بعد الإنشاء، وتسويته بمعنى تكميله حتى لا يحتاج الى شيء لتحقيق ما خلق له الا وقد أعطاه، ولا تجد ثغرة في خلق الله تعالى ولا فطورا، ولا نقصا؛ كبيرا او صغيرا؛ وذلك قوله: ﴿فَسَوَّىٰ﴾.
لكل خلق هدف
* كثيرة هي مخلوقات الله؛ تلك التي نراها وتلك التي لا نراها، فهل من معرفة هدف بعضها؛ ولو على سبيل المثال؟
- لقد قدر الله لكــل خلق من الكائنات، جمادا او نباتا او حيوانا او إنسانا، هدفا ألزمه به، وجعله يسعى اليه، وحدد لكل هدف وسيلة، ولكل غاية سبيلا، وهدى كل شيء إلى ما قدر له ﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾.
أما الجمادات، فقد هداها بما أوجد فيها من قوة وإمكانية، وبما أوجد فيما حولها من ضغوط؛ مثلا: لعل التفاحة لا تحس لماذا خلقت؟ ولا تهتدي بذاتها الى هدفها المتمثل في إغناء جسد الانسان بما يحتاجه من فيتامين وروحه بما تتطلع اليه من جمال وروعة؛ ولكن الله جعل في التفاحة هذه الخصائص، وجعــل فـي الانسان حاجة اليها؛ فجعل سعي الانسان اليها بمثابة سعيها اليه؛ على اننا لا نملك معرفة بما في واقع التفاحة او أي جماد او نبات او حيوان من تحسس.
ولكي تزداد معرفتنا بالله وتسبيحنا له، ننقل - في ما يلي - مقاطع من كتاب «العلم يدعو للإيمان» الذي ينقل إلينا الكاتب الأمريكي «كريسي موريسون» رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك فيه بعض آيات الله في الطبيعة: ان الطيور لها غريزة العودة الى الموطن؛ فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوبا في الخريف؛ ولكنه يعود الى عشه القديم في الربيع التالي.
«وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم طيورنا (في أمريكا) الى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق البحار، ولكنها لا تضل طريقها.
«والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار، كل ذلك دليل يُرى ولا بد ان للحشرات الدقيقة عيونا ميكروسكوبية (مكبرة) لا ندري مبلغها من الأحكام، وان للصقور بصرا تلسكوبيا (مقربا)».
ويضيف: «ان العاملات من النحل تصنع حجرات مختلفة الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية، وتعد الحجرات الصغيرة للعمال، والأكبر منها لليعاسيب (ذكور النحل)، وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل. والنحلة الملكة تضع بيضا غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور، وبيضا مخصبا في الحجرات المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات والعاملات اللائي هن إناث معدلات بعد ان انتظرن طويلا مجيء الجيل الجديد تهيأن ايضا لإعداد الغذاء للنحل الصغير بمضغ العسل واللقح ومقدمات هضمه، ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور والإناث، ولا يغذين سوى العسل واللقح، والإناث اللائي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات». (1)
من الذي قدر للنحل أمره وهداه اليه؟ ومن الذي علم الطيور رزقها ومسراها، وهدى كل حي الى ما يصلحه وما قدر له؟ أليس الله؟ فسبحان ربي الأعلى.
دعنا نستمع الى قصة لعنكبوت مائي: يقول الكاتب المذكور: ان إحدى العناكب المائية تصنع لنفسها عشا على شكل منطاد (بالون) من خيوط بيت العنكبوت، وتعلقه بشيء ما تحت الماء، ثم تمسك براعة فقاعة هواء في شعر تحت جسمها، وتحملها الى الماء ثم تطلقها تحت العش، ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش، وعندئذ تلد صغارها، وتربيها آمنة عليها من هبوب الهواء. فهاهنا نجد طريقة النسج بما يشمله من هندسة وتركيب وملاحة جوية».
وهكذا يقدر الله لهذا الحيوان او ذاك النبات ما يصلحه ثم يهديه اليه؛ فسبحان ربنا الأعلى، ولكن ذلك لا يختص بالحيوان المتكامل او النبات التام بل حتى الخلايا هداها الله لما قدرت له بطريقة غريبة، يقول المؤلف: «كل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب ان تكيف نفسها لتكون في موقعها المناسب، والذي قدرت له، مثلا، ان تكون جزءاً من اللحم، او ان تضحي بنفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى، وعليها ان تصنع ميناء الأسنان، وان تنتج السائل الشفاف في العين، او ان تدخل في تكوين الأنف او الأذن. ثم على كل خلية ان تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتأدية مهمتها، ومن العسير ان نتصور ان خليـــة ما هي ذات يد يمنى او يسرى؛ ولكن احدى الخلايا تصبح جزءاً من الأذن اليمنى، بينما الأخرى تصبح جزءاً من الأذن اليسرى، وان مئات الآلاف من الخلايا تبدو كأنها مدفوعة لان تفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب وفي المكان الصواب».(2)
وهكذا الخلية الواحدة تصلح ان تكون «مدرسة توحيدية» شريطة ان تصبح أنت تلميذا فيها؛ فهل أنت مستعد؟
الدورات الحياتية
* ماذا أراد بقوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى}؟ هل أراد، مثلا، الدورات الحياتية؟
- إن هذه القدرة الهائلة التي تتجلى في الكائنات ليست قدرة ذاتية فيها؛ بل هي من عند ربها، وهكذا تعيش كلها دورة حياتية معينة لا تلبث ان تساق نحو الفناء حسب تقدير ربها، وان في ذلك لآية على ان ما بها من قدرة و قوة وحول وطول فهي من عند الله، وان ما فيها من نقص وعجز وحد وقيد لشاهد على تعالي بارئها منها، وانه قدوس سبحانه بلا نقص ولا عجز ولا حد ولا قيد.
ويضرب القرآن لنا مثلا ظاهرا لهذه الدورة الحياتية السريعة، ويقول:
﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾.
فلقد كانت الأرض حبلى بالمواد التي جعلها الله بالماء وأشعة الشمس نباتا؛ فاذا بأديمها يخضر بالعصف والريحان، ولكن كم يدوم ذلك؟ ليس إلا أياما معدودة.
سواد الموت
* ماهو الربط والعلاقة بين حالة الإنسان وحالة الزرع؛ حيث قال تعالى: ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ وكيف نفهم معنى {غُثَاءً أَحْوَى}؟
- بعد أيام تتحول الأرض الى بساط أصفر، وتتراكم أوراق الشجر وبقايا الحصاد الى غذاء للأحياء بعد المواسم. وإذا بقيت المراعي هكذا وتراكمت عليها طبقات من التراب؛ أصبحت فحما حجريا تنتفع منه الأجيال القادمة. لا شيء من خلق الله يذهب باطلا؛ انه يصبح مادة لخلق جديد؛ او ما ينفع الخلق الجديد.
وأما عن قوله تعالى:
﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾؛ فقالوا: أصل كلمة «الغثاء» زبد السيل وما يتجمع في اطراف المياه من بقايا النبات والقماش. ويقال للبقل والحشيش إذا تحطم ويبس. أما «الأحوى» فانه الأسود، وإذا تراكم النبات واشتد اخضراره، تراءى كأنه سواد، ومن هنا سميت أرض العراق بــ «أرض السواد».
ما هذه القدرة التي تقلب الأرض كيف تشاء؛ فحينا تستخرج نباتها، وآخر تدعها بلقعا تتجمع حولها الغثاء الأحوى؟ وكما الدورة النباتية السريعة؛ كذلك دورة الحياة عند الانسان؛ انها تدور بسرعة؛ فاذا باخضرار الحياة تتحول الى سواد الموت، وهكذا الآخرة هي خير من الأولى لمن بصر وعقل.
-------------------
1. في ظلال القرآن، ج6،ص3885.
2. في ظلال القرآن،ج6،ص3887.ا
الكاتب: السيد جواد الموسوي
المصدر: مجلة الهدى الثقافية