لم تتوقّع غالبية المراقبين نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسيّة التونسية، فقد تنافس آنذاك عدد كبير من السياسيّين البارزين، منهم رئيس الحكومة الحاليّ ورئيسا حكومة سابقَان، وأيضاً وزير الدفاع الحاليّ ووزراء سابقون، إضافةً إلى الرئيس المؤقت للبرلمان المدعوم من «حركة النهضة»، بجانب قادة المعارضة في الأعوام السابقة. لم يصعد أيّ من هؤلاء، بل اختار الناخبون أستاذ القانون الدستوريّ المتقاعد، قيس سعيّد، ورجل الأعمال الموقوف في السجن حينذاك، نبيل القروي. وأعلنت «هيئة الانتخابات» في بيان أذاعه التلفزيون أمس فوز سعيّد في انتخابات الرئاسة بنسبة 72.71% من الأصوات، وذلك في نتائج أولية رسمية، مضيفةً أن نسبة إقبال الناخبين بلغت 55%.
ما الذي حدث؟ بالنسبة إلى القروي كان الأمر متوقّعاً نظراً لشعبيته الواضحة في صفوف الفقراء في ضواحي المدن والريف، وبخاصة النساء. كان القروي نفسه ينتظر أن يحقّق نتائج جيّدة أحسن حتى مما حصل عليه فعليّاً، وقد قال أخيراً إنّه كان من الممكن أن يحصد أكثر من نصف أصوات الناخبين منذ الدورة الأولى ويحصل حزبه، «قلب تونس»، على الغالبية البرلمانية في حال لم يُسجن نهاية آب/أغسطس الماضي. أما سعيّد، فكان حاضراً دائماً في توقّعات استطلاعات الرأي، لكن لم يأخذ أحدٌ الأمر بجديّة. ومردّ ذلك افتقاده إلى ماكينات انتخابيّة واضحة مثل أحزاب داعمة. مع ذلك، كانت له شبكة دعم غير مرئيّة تتمثّل في مئات الشباب الداعمين له من دون أن تكون لهم بالضرورة علاقات مباشرة به. هؤلاء جمعوا تزكيات الناخبين لمصلحته وخاضوا حملة دعاية ميدانية وعلى شبكات التواصل الاجتماعيّ. هكذا، تشكّلت شبكة الدعم عبر أنشطة سعيّد المدنيّة المكثّفة في الأعوام الماضية ومداخلاته على الهواء الناقدة للنخبة السياسيّة.
فجأة، وجد الناس أنفسهم أمام مرشحين اثنين فقط، وهنا ظهرت عوامل حاسمة. من جهة، نشط جزء كبير من الإعلام التقليديّ وغير التقليديّ لكشف الجانب المظلم لشخصيّة القروي وطبيعة علاقاته، وأُذيعت تسريبات صوتيّة له وهو يحثّ موظفيه في تلفزيون «نسمة» على تشويه ناشطين في جمعيات والتحرّش بعائلاتهم لتصفية حسابات معهم، كما كُشف النقاب عن عقد وقّعه مع شركة علاقات عامة كنديّة يملكها مستشار سابق لرئيس الوزراء الإسرائيليّ (بنيامين نتنياهو)، إضافةً إلى إدانة واسعة لإستغلاله العمل الخيريّ وتوظيفه سياسيّاً. ومن جهة ثانية، تشكّل قطاع داعم لسعيّد رأى أنه «خيار الضرورة» لوضع حدّ لصعود القروي. لكن، كيف تمكّن الرجل من تحصيل دعم جهات سياسيّة متنافرة، تتراوح بين الإسلاميّين والماركسيّين والقوميّين؟ في واقع الأمر، لم يسعَ سعيّد لنيل دعم أحد، بل قال إنّه يرحّب بأيّ جهة تريد مساندته لكنّ الأمر لا يعنيه كثيراً. يعني ذلك أنّه لم يرتمِ في حضن أيّ حزب، بل جعل الأحزاب تلجأ إليه من دون أن يربط نفسه بأيّ منها، مع تأكيده الدائم أنّه لن يتحالف مع أحد وأنّ ثقته الوحيدة في الشعب فقط. إذاً، تأسّس دعم الأحزاب والناشطين له على أساس أنّه غير مرتبط بتنظيم، وعلى مجموعة من الخصال الشخصيّة مثل «النزاهة والتعفّف ونظافة اليد».
لكنّ ذلك لم يكن كلّ شيء، إذ رأى كلّ حزب في سعيّد ما يريد رؤيته. هنا تأتي الصفة الشخصيّة الأهم فيه، وهي قدرته على جمع المتناقضات: هو متديّن لكنّ أسلوب حياته حداثيّ، يؤمن بالوحدة العربيّة وبالأمة الإسلاميّة وبتونس في آنٍ، يتحدّث دائماً بلغة عربيّة فصحى لكنّ جزءاً من ثقافته فرانكوفونيّ أيضاً، يحمل نفساً إسلاميّاً ويؤمن بالحريات الشخصيّة. وينعكس ذلك بوضوح في تنوّع خلفيات من صوّتوا له، وفق تقارير شركات سبر الآراء. مع ذلك، يتحدث كثيرون عن غموض في برنامج سعيّد، لم تساهم إطلالاته الإعلاميّة في تبديده. يحمل هذا الرأي كثيراً من الصواب، إذ أن الرجل لا يقدم أفكاراً كثيرة. فهو رفض تقديم «وعود انتخابية» وفضّل الحديث عن «تعهّدات». الفكرة الأهم في هذا السياق تعهّده توفير الآليات القانونيّة للشعب ليحقّق تطلعاته، وذلك بتقديم قانون يُعيد تنظيم الهياكل التمثيليّة. كذلك، يرفض سعيّد نظام الاقتراع على القوائم، ويرفض الوضع الحاليّ للبرلمان.
ويقوم البديل المقترح لديه على انتخابات محليّة ينتخب الناس خلالها أفراداً على أساس برامج، ويمكن سحب الثقة منهم في حال عدم التزامهم إياها، ثمّ يختار المنتخَبون ممثلين لهم على مستوى أعلى، وصولاً إلى اختيار نواب في البرلمان. يعتقد سعيّد أنّ هذا النظام يسمح للناس بحكم أنفسهم، لكن تبدو الفكرة مثالية في رأي الجزء الأكبر من الطيف السياسيّ، وقد حذّر البعض من إمكانيّة تحوّلها، في حال طُبّقت، إلى ما يشبه المؤتمرات الشعبيّة في ليبيا زمن معمّر القذافي. رغم هذا، يسعى سعيّد إلى تجسيد فكرته بتقديمها في مبادرة تشريعيّة. ويقول إنّه في حال رفضها البرلمان «سيحمّله مسؤوليّته التاريخيّة أمام الشعب». ويبدو من المستبعد أن يوافق البرلمان على مقترح مثل هذا لأسباب كثيرة، بل سيكون من بين الرافضين الأحزاب التي دعمته. ويمكن الحديث هنا مجدداً عن كون الرجل خيار الضرورة عند تلك الأحزاب، فهي ترى، من دون أن تعلن ذلك صراحة، أنّ دوره ينتهي عند هزم القروي، ويمكن لاحقاً احتواؤه بيسر نظراً للصلاحيات الضيّقة لرئيس الجمهوريّة. لكن، يمكن لبعض الأحزاب أن تذهب بعيداً في محاولتها احتواء سعيّد. تظنّ «النهضة» مثلاً أنّ الرجل يتقاطع معها في كثير من المواضيع، وقد وظّفت شعبيّته خلال حملتها للانتخابات التشريعيّة عبر الحديث عن ضرورة التصويت لمصلحتها حتى تشكّل حكومة تعمل في تناغم معه. وأيضاً حاول «ائتلاف الكرامة» توظيف شعبيّته عبر الحديث عن «تيار ثوريّ» يمثلونه، وأن سعيّد جزء منه.
بعيداً عن الأحزاب، تُظهر تقديرات الآراء معطيات مثيرة للإنتباه بخصوص سعيّد، ومن بين ذلك مثلاً أنّ 31% ممن صوّتوا له لم يشاركوا في الانتخابات التشريعيّة، ما يعني افتقادهم الثقة في الأحزاب، وهذا عنصر شديد الأهميّة في صعوده. كما جمع سعيّد 90% من أصوات الناخبين الشباب بين الـ18 والـ25، وهذه فئة يصعب التأثير فيها، وحظي أيضاً بغالبية أصوات بقيّة الشباب والكهول، لكنه أخفق في حيازة غالبية أصوات من تتجاوز أعمارهم الستين. وفي حال تثبيت نتائج الانتخابات، سيصبح سعيّد رئيساً للجمهوريّة، ويصير أمام اختبار الواقع. يحمل الرجل على كتفيه عبء تجسيد شعاراته، ولن يكون ذلك سهلاً. إذ يواجه مواقف حذرة من أوروبا، خاصّةً فرنسا التي يريد إقامة «علاقات نديّة» معها، فضلاً عن دول عربيّة يريد تطوير التعاون معها، لكنّها تنظر إليه بعين الريبة، وسط نخبة حزبيّة غير مستعدّة لفتح المسار لإعادة تأسيس النظام السياسيّ.
المصدر: الأخبار - حبيب الحاج سالم