* سورة القدر المباركة نزلت في مكة المكرمة(1) بعد سورة «عبس»؛ عدد آياتها (5)، وترتيبها النزولي (25)، وترتيبها في المصحف (97).
**فضل السورة
ما فضل هذه السورة المباركة؟
* لهذه السورة المباركة فضل عظيم؛ وقد وردت روايات كثيرة في فضلها ومنزلتها؛ نذكر ــ في ما يلي ــ إحداها: عن أبي عبد الله ،عليه السلام، قال:
«من قرأ [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] في فريضة من الفرائض، نادى منادٍ: يا عبد الله؛ قد غفر الله لك ما مضى؛ فاستأنف العمل»(2).
** للقرآن نزولان
من المعروف ـ تاريخياً ـ ان القرآن الكريم نزل على رسول الله ،صلى الله عليه وآله، تدريجياً خلال (23) عاماً؛ فكيف نُوفق بين هذا النزول التدريجي وبين قوله تعالى: [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ] والذي يعني النزول الدفعي؟
* لقد نزل القرآن الكريم كله على قلب رسول الله ،صلى الله عليه وآله، في ليلة القدر، ثم نزل بصورة تدريجية طيلة ثلاثة وعشرين عاماً.
وفي التعبير القرآني عن نزول القرآن الكريم، هناك كلمة «إنزال» والذي يعني النزول الدفعي، وهناك كلمة «تنزيل» والذي يعني النزول التدريجي؛ فللقرآن، اذن، نزولان.
** دلالات العظمة
واضح ان مُنزل القرآن الكريم هو الله تعالى وهو واحد احد، فلماذا جاء التعبير بصيغة جمع المتكلم [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ]؟
* جاء التعبير بصيغة الجمع وهو قوله تعالى: [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ] ـ للدلالة على عظمة هذا الكتاب السماوي؛ ونسبة نزول القرآن الكريم الى الله تعالى دلالة اخرى على عظمة هذا الكتاب . وعبارة [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ] لها مفهوم جمعي وان كان المراد هو الله الواحد الاحد.
** ليلة الاقدار المقدرة
تصرح الآية المباركة بأن القرآن الكريم نزل في [ليلة القدر]، فلماذا سميت هذه الليلة بـ [ليلة القدر] ؟
* ان اهم ما في هذه الليلة المباركة هو تقدير شؤون الخلائق؛ وقد استُنبط اللفظ منه؛ فهي ليلة الاقدار المقدرة؛ كما قال ربنا عن هذه الليلة وما يقدر فيها: [فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ](3).
وقال بعضهم : بل لأنها ليلة جليلة القدر، قد انزل الله فيها كتاباً قديراً، ولأن الذي يحييها يكون عند الله ذا قدر عظيم؛ وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم، وهو حدث نزول القرآن الكريم.
ماهي الأقدار التي يتم تقديرها في هذه الليلة المباركة؟
* الأقدار التي يتم تقديرها في هذه الليلة المباركة هي مقدرات الناس لسنة كاملة، وكذلك أرزاقهم وأعمارهم، وأمور أخرى تفرق وتبين في ليلة القدر المباركة.
** بصائر ثلاث
هذا التقدير الإلهي في هذه الليلة المباركة ألا يعني الجبر بذاته؟ والسؤال بعبارة أخرى: اذا كانت ليلة القدر تحدد مصير الإنسان، فلماذا العزم والسعي والاجتهاد في سائر أيام وليالي السنة ؟!
* كلا؛ ليس هذا من الجبر في شيء، ونعرف ذلك جيدا اذا وعينا البصائر التالية:(4)
البصيرة الاولى: يبدو - والحديث للمرجع المدرسي، دام ظله - ان التقدير في هذه الليلة لا يطال كل جوانب الحياة؛ فهناك ثلاثة أنواع من القضايا: نوع قُدّر في ليلة واحدة في تاريخ الكون، ونوع يتم تقديره في السنة التي يعيشها الإنسان، ونوع يبقى مفتوحاً يخضع لمشيئة الإنسان وهو الفتنة.
البصيرة الثانية: ان الله يقدر لعباده تبعاً لحكمته البالغة ولقضائه العدل؛ فلا يقضي لمؤمنٍ صالحٍ متبتلٍ ما يقدر لكافر طالح؛ وهكذا يؤثر الإنسان في مصير نفسه بما فعله خلال العام الماضي، وما يفعله عند التقدير في ليلة القدر، وما يعلمه الله من سوء اختياره خلال السنة.
البصيرة الثالثة: إن الناس يزعمون أن هناك أحداثاً تجري عليهم لا صنع لهم فيها؛ كموت عزيز، والإصابة بمرض عضال، والابتلاء بسلطان جائر، او بالتخلف، او بالجفاف، ولكن الأمر ليس كذلك؛ فحتى هذه الظواهر التي تبدو أنها خارج إطار مشيئة الإنسان أنما تقع بإذن الله وتقديره وقضائه.
** (ما أَدْرَاكَ) وَ(مَا يُدْرِيكَ)
التعبير القرآني في قوله تعالى: [وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ] ما هي دلالته؟
* قال البعض: إن هذه الجملة وردت في القرآن الكريم لبيان أهمية الحقيقة التي تُذكر بعدها؛ بينما تترك الحقيقة مجملة اذا ذكرت عبارة [وَمَا يُدْرِيكَ] .. هكذا قالوا؛ واعتقد - والحديث للمرجع المدرسي، دام ظله - إن كلتا الجملتين تفيدان تعظيم الحقيقة التي تذكر بعدها.
** عيد الرحمة الإلهية
كيف أمست ليلة القدر خيراً من ألف شهر كما صريح قوله تعالى [وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ]؟
* عندما انهمر الوحي الإلهي على قلب الرسول، صلى الله عليه وآله، في ليلة القدر في شهر رمضان المبارك، وتنزلت ملائكة الرحمة والروح بالقرآن، رسالة السلام وبشير الرحمة؛ عندئذٍ، خلّد الله هذه المناسبة المباركة التي عظمت في السماوات والأرض، وجعلها ليلة مباركة خيرا من ألف شهر.
إن ليلة القدر ملتقى أهل السماوات بأهل الأرض حيث يجددون ذكرى الوحي، ويستعرضون ما قدر الله للناس في كل أمر؛ إنها - حقاً - عيد الرحمة؛ فمن تعرض لها، فقد حظي بأجر عظيم.
** موهبة ليلة القدر
تتحدث الآية الكريمة عن رقم محدد هو [أَلْفِ شَهْرٍ] أي ثلاثة وثمانون عاما وأربعة شهور، فهل هذا العدد للعد أم للتكثير؟
* يتمنى الكثيرون تطويل أعمارهم، وقليل منهم هم الذين يحققون هذه الأمنية.
إن السبيل الى تمديد العمر إنما يكون بتعميقه ومدى الانتفاع بكل لحظةٍ بلحظةٍ منه.
إن عمر رسولنا الكريم، صلى الله عليه واله، الذي لم يتجاوز الثلاث والستين، وأيام دعوته ثلاثة وعشرون عاما منها ولكنها كانت ابعد أثراً من عمر نبينا «نوح» المديد، بل من سني الأنبياء جميعا؛ وهكذا خص الله أمته بموهبة ليلة القدر التي جعلها خيراً من ألف شهر، ليقدروا على تمديد أعمارهم في البعد الثالث وهو بعد العمق.
ولعل الخبر المأثور عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، يشير الى ذلك؛ فقد روي أن رسول الله، صلى الله عليه وآله، «أُري أعمار الأمم قبله، فكأنما تقاصر أعمار أمته الا يبلغوا من العمر مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر؛ فأعطاه الله ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر». (5)
** على أئمتنا يتنزلون
تقول الآية المباركة : [تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا] فهل الأصل «تنزل» ؟ وماذا نستوحي من هذا الفعل؟
* أصل الفعل «تتنزل» وليس «تنزل» وصيغته مضارع يدل على الاستمرار؛ فنستوحي منها: إن ليلة القدر لم تكن ليلة واحدة في الدهر، وإنما هي في كل عام مرة واحدة، ولذلك أمرنا النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، بإحيائها في كل عام. وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين، عليه السلام، انه قال لابن عباس: «ان ليلة القدر في كل سنة، وانه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، وان لذلك الامر ولاة بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله» .
فقلت: من هم ؟ فقال: انا وأحد عشر من صلبي».(6)
الروح ما هو ؟ هل هو جبرائيل ، عليه السلام؟
* قال البعض: إن الروح هو جبرائيل، عليه السلام، وقال بعض آخر: إن الروح هو الوحي، وذكر البعض إن الروح اعظم من الملائكة، ويبدو ان الروح - والحديث للمرجع المدرسي، دام ظله - خلق نوراني عظيم الشأن عند الله، وان الله ليس يؤيد أنبياءه به فقط، وإنما حتى الملائكة، ومنهم جبرائيل يؤيدهم به؛ وبهذا نجمع - كما يقول المرجع المدرسي، دام ظله - بين مختلف الاحتمالات والأدلة؛ والله العالم.
الملائكة والروح تتنزل في ليلة القدر بإذن ربهم، لماذا ورد هذا التوضيح وهذا التأكيد؟
* عظيمة ليلة القدر التي تتنزل الملائكة فيها، وعظيمة لأن الروح ـ وهو أعظم من الملائكة ـ تتنزل فيها، ايضا، ولكن لا ينبغي ان نتوجه الى عظمة الملائكة والروح بعيداً عن عظمة الخالق سبحانه؛ فإنهم - أي الملائكة والروح - عباد مكرمون، مخلوقون مربوبون؛ وليسوا - ابداً - بأنصاف آلهة، وليس لهم من الأمر اي شيء ولذلك فان تنزلهم ليس باختيارهم وإنما بإذن ربهم.
لماذا جاء تعبير [رَبِّهِمْ]؟ وهل لهذا التعبير دلالة خاصة في الآية الكريمة؟
* إن الله رب العالَم والعالميَن، والربوبية تعني تدبير العالَم، ودلالة عبارة [رَبِّهِمْ] تركيز على هذا المعنى، وتتناسب ـ تماما مع عمل الملائكة والروح في ليلة القدر المباركة لأنها تتنزل لتدبير الأمور وتقديرها [ِبإِذْنِ رَبِّهِمْ].
قوله تعالى [مِنْ كُلِّ أَمْرٍ] حدد الهدف من تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر؛ فلماذا التبعيض بحرف [مِن]؟
* قالوا: معناه لاجل كل أمر، وقالوا: بكل أمر؛ فالملائكة - حسب هذا التفسير - يأتون لتقدير كل أمر.
ولكن؛ أليس الله قد قدر لكل أمر منذ خلق اللوح وأجرى عليه القلم؟
* بلى .
إذن، فما الذي تتنزل به الملائكة في ليلة القدر؟
* يبدو أن التقديرات الحكيمة قد تمت في شؤون الخلق، ولكن بقيت امور لم تحسم وهي تقدر في كل ليلةِ قدرٍ لأيامِ عامٍ واحد؛ فيكون التقدير خاصا ببعض جوانب الامور، وليس كل جوانبها. بلى؛ تشمل التقديرات جميع الامور، ولكن من كل أمر جانباً؛ وهكذا يكون حرف [من] للتبعيض، وهو معناه الأصلي.
** ليلة السلام
ماذا يجري في ليلة القدر حتى تصفها الآية الكريمة بانها: [سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ]؟
* السلام كلمة مضيئة تغمر الفؤاد نوراً وبهجة ولا يكون الإنسان في سلام عندما يشكو من نقص في أعضاء بدنه، او شروط معيشية، او تطلعات روحه. لا يتحقق السلام إلا بتوافر الكثير من نِعَمِ الله التي لو افتقرنا الى واحدة منها ، فقدنا السلام. وليلة القدر ليلة سلام لان كل لحظاتها سلام لكل الأنام.
وفي هذه الليلة المباركة، يغفر الله سبحانه لفئات من المستغفرين، وينقذهم ـ بذلك ـ من نار جهنم؛ وأي سلام أعظم من سلامة الإنسان من عواقب ذنوبه في الدنيا والآخرة؟!
من هنا؛ يجتهد المؤمنون في هذه الليلة لبلوغ هذه الامنية وهي العتق من نار جهنم، ويقولون ـ بعد أن ينشروا المصاحف أمامهم: «اللهم إني أسألك بكتابك المنزل وما فيه وفيه اسمك الأعظم الأكبر وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار». (7)
** في الليالي الثلاث
عرفنا بان ليلة القدر من ليالي شهر رمضان المبارك، ولكنها في آية ليلة منه؟
* يبدو من بعض الأحاديث: إن ليلة القدر الحقيقية هي الليلة الثالثة والعشرون من الشهر المبارك، أما الليلة التاسعة عشرة والليلة الحادية والعشرون هما وسيلتان إليهما؛ من وفق للعبادة فيهما؛ نشط في الثالثة وكان اقرب الى رحمة الله فيها؛ وهكذا روي عن الإمام الصادق، عليه السلام، انه قال لمن سأله عن ليلة القدر: «اطلبها في تسع عشرة، واحدى وعشرين، وثلاث وعشرين». (8)
وروي عن الإمام الصادق، عليه السلام، في حديث آخر انه قال: «التقدير في ليلة تسع عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين». (9)
----------------------
1- احتمل بعض المفسرين انها نزلت في المدينة المنورة.
2- وسائل الشيعة ج6، ص79.
3- سورة الدخان، الآية4.
4- لمزيد من التفصيل حول هذه البصائر يراجع «من هدى القرآن» لسماحة المرجع المدرسي ج12، ص280ـ 281.
5- تفسير القرطبي ج 20، ص133، وتفسير الدر المنثور، ج6، ص371.
6- الكافي،ج1،ص247.
7- الكافي ج2، ص629.
8- وسائل الشيعة ج10، ص360،
9- الكافي ج4، ص157.
الکاتب: السيد جواد الرضوي
المصدر: موقع مجلة الهدى الثقافية