• ما هي أبعاد السهو عن الصلاة؟
للاجابة على السئوال علينا ان نراجع التفسير الملخص لسورة الماعون الذي يفسرها لنا الكاتب السيد جواد الرضوي في المقال التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7).
• أين نزلت سورة الماعون المباركة؟ و متى؟ و كم هو عدد آياتها؟ و ما هو ترتيبها النزولي و ترتيبها في القرآن الكريم؟
- سورة الماعون المباركة مكيّة، نزلت بعد سورة التكاثر المباركة، عدد آياتها (7) . ترتيبها النزولي (16)، و ترتيبها في القرآن الكريم (107).
• ما فضل هذه السورة المباركة؟
- ورد في كتاب "ثواب الأعمال" للشيخ الصدوق – رحمه الله - باسناده عن أبي جعفر، عليه السلام، انه قال: "من قرأ "أرأيت الذي يكذب بالدين"، في فرائضه و نوافله، قَبِل الله عز وجل صلاته و صيامه، و لم يحاسبه بما كان معه منه في الحياة الدنيا ". (1)
* الإطار العام
- القرآن الكريم ميزان، ومن دونه لا يملك الانسان بصيرة بنفسه ليعرف: من هو؟ وكيف هو؟
أليس حب الذات يجعل الإنسان يزعم أبداً انه على صواب؟ بينما هنالك مقاييس إن طبقت عليه كان صالحا، وإلا لا يغنيه التمنّي، و التظني، و الإدعاء شيئا .
ولا يكفي ان يدعي أحد انه مسلم، و انه يؤمن بالآخرة، انما يجب ان يصدق عمله قوله.
و "سورة الماعون" المباركة تذكرنا بهذه الحقيقة، و تبين صفات المكذب بالدين وإن ادعوا التصديق به؛ و هي: طرد اليتيم، و الرغبة عن المسكين، و الاستهانة بالصلاة و الرياء فيها، و منع الخير عن أهله.
و هكذا تأتي السورة المباركة فرقاناً يميز المؤمن حقا بالدين و المكذب به .
* المكذب و الصفات الثلاث
• هل الصفات التي تسوقها هذه السورة المباركة تؤخذ مفردة أم جميعاً؟
- نُقِل عن بعضهم ان تلك الصفات تؤخذ جميعاً؛ فالمكذب بالدين هو الذي يجمع الصفات الثلاث، وهذا هو الظاهر؛ لان صفات الشر تتداعى كما تتداعى صفات الخير، و هكذا تعرفنا السورة الكريمة بالذين يكذبون بالدين من هم، حتى نتقي تلك الصفات وما يؤول اليها من التكذيب بالدين.
* الإيمان بالجزاء
• في قوله تعالى: "أرأيت الذي يكذب بالدين"، من المُخاطَب؟ و من الذي يكذب بالدين؟ و ما المراد بالدين؟
- الخطاب لرسول الله، صلى الله عليه و آله. و ذكر البعض بأن الآية الكريمة نازلة في شأن "أبي جهل" وكفار قريش، و ذكر آخرون بأنها نازلة في شأن "أبي سفيان".
والدين هو الجزاء، و قيل: بل الاسلام و القرآن، و لكن محور أي دين هو الايمان بالجزاء الذي ينعكس على النفس بالإحساس بالمسؤولية، وهو معنى الدين بمعناه الشامل .
والايمان بالدين يزكّي نفس الانسان، و يخرجها من شحّها و ضيقها و جهلها، و يستثير فيها فطرة الحب و بواعث الخير و حوافز المعروف، و يجليها بالعواطف الجياشة تجاه المستضعف و المحروم . بينما الذي يكذب بالدين تراه يدعّ اليتيم، ذلك الطفل البريء الذي حرم حب والده، (او والدته أو كليهما)، و حنانه و عواطفه .
* توبيخ و إنكار
• لماذا بدأت السورة بصيغة الاستفهام؟
- الهمزة في قوله تعالى: "أرأيت" للاستفهام؛ أتى بها على صورة التعجّب لإفادة التوبيخ و الإنكار على الذي يكذب بالدين .
إذن؛ موضوع الخطاب يشمل الرسول الأعظم، صلى الله عليه و آله، و جميع المؤمنين الموحدين في كل زمان و مكان، كما يشمل جميع المكذبين بالدين في كل زمان و مكان و ليس فقط كفار قريش .
* بسبب المصالح
• الآية الكريمة: "فذلك الذي يدع اليتيم"، تقرر بان المكذب بالدين يدعّ اليتيم، فما المراد بالدّع؟ و لماذا تبرز فيه هذه الصفة؟
- قالوا: الدع: الطرد و الدفع بعنف وقوة، وهو يكشف عن قسوة القلب، و تبلد العاطفة، و قد لا يطلب اليتيم منهم شيئاً سوى الترحّم حتى يستعيض به ما فقده من بركات والده (أو والدته، أو كليهما)، و لكن قلب المكذب بالدين القاسي الذي يتمحور حول المصالح، لا يجد باعثاً لاستقبال اليتيم، لانه لا يتوقع من ورائه مصلحة دنيوية عاجلة .
* ليس إنساناً
• بماذا يُبتلى من يكذب بالدين؟
- لقد حضّ الاسلام على احترام اليتيم و إيوائه، حتى روي عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، انه قال:
"من ضمّ يتيماً من المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة". (2)
و من أسوأ ما يبتلى به الذي يكذب بالدين، مسخ الشخصية، و انتكاسة الفطرة، فتراه لا يتأثر بمنظر المسكين الذي يتضوّر جوعاً، ولا يحضّ أحداً على توفير نصيبه من الطعام ؛ انه لم يعد انسانا ينبض قلبه بحب نظرائه من البشر.
* حق اليتيم
• كيف لا يتأثر المكذب بالدين بمنظر المسكين؟ و ما المراد بالحضّ في قوله تعالى: "و لا يحضّ على طعام المسكين" ؟
- قالوا: الحض بمعنى الترغيب، و قال بعضهم: الطعام هنا بمعنى الإطعام، و قال بعضهم : بل الطعام بمعنى ما يستحقه اليتيم من الطعام، إشارة الى انه من حقهم و من مالهم، كما قال ربنا سبحانه: "و الذين في أموالهم حق معلوم للسائل و المحروم ".(3)
* وجوب الحض
• هل من توضيح أكثر لهذه الفكرة؟
- لا يعد إطعام المسكين سوى رد حقه اليه، و على المجتمع ان يكون شاهداً على ذلك و رقيباً، كما يراقب وضع السلطة، و الأمن، و الاقتصاد، و كما يشهد على سائر الحقوق ان ترد الى أهلها، ومن لم يقم بشهادته، و ترك المسكين يتضور جوعا؛ فانه يستحق العقاب، لانه ساهم في إفساد المجتمع و نشر الفقر في أرجائه، كالذي يرى الطاعون ينتشر بين الناس فلم يمنعه وهو قادر على المنع، او يترك الأسد ينهش طفلاً فلا يردعه، او يترك الصبي يتردى فلا يهب لانقاذه، أو يدع الأعمى يصطدم و لا يحرك ساكنا.
ومن هنا ؛ يصبح الحض على طعام المسكين واجبا بحد ذاته و تركه حراما .
* الزكاة عِدْل الصلاة
•كيف انتقل السياق من طعام المسكين إلى الصلاة في قوله تعالى : " فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون "؟
- طعام المسكين، أبرز مصاديق الزكاة، و الزكاة عِدْل الصلاة، و عادة ما يُذكران معاً في القرآن، بيد ان الصلاة ليست مظهراً خارجياً من مظاهر الدين، بل هي - قبل ذلك - صلة العبد بالرب، فالذي يفسد هذه الصلة بالرياء، و يستخدم أقدس مقدساته في أمور الدنيا فان له الويل و اللعنة.
* السهو عن الصلاة
• ما هي أبعاد السهو عن الصلاة؟
- ويلٌ للمصلين، الذين اتخذوا الصلاة وسيلة الدنيا، وهي معراج الآخرة، وهكذا تساهلوا فيها؛ فتراهم ينشطون الى الصلاة في الملأ، و يسهون عنها في الخلاء .
و الصلاة - حقا - هي التي تبتلك عن الخلق الى الخالق، وعن الدنيا الى الآخرة، وعن الجسد الى الروح، و المؤمن ينبعث اليها في الخلوات في رحم الظلام عند سبات الطبيعة، حينما تحلو المؤانسة مع خير الذاكرين، و المناجاة مع رب العالمين؛ بينما المنافق يسهو عنها عندئذ، و يخلو الى الغفلة و اللذة و وساوس ابليس. ومن أبعاد السهو عن الصلاة، تأخيرها عن وقتها لغير عذر، هكذا روي في حديث مأثور عن الامام الصادق، عليه السلام، قال: "تأخير الصلاة عن أول وقتها لغير عذر".(4)
و روي عن الامام أمير المؤمنين، عليه السلام انه قال: "ليس عمل أحب الى الله عز وجل من الصلاة، فلا يشغلنكم عن أوقاتها شيء من أمور الدنيا، فان الله - عز وجل - ذم أقواماً فقال: "الذين هم عن صلاتهم ساهون " يعني انهم غافلون، استهانوا بأوقاتها". (5)
* " السهو عن " و " السهو في "
• هل السهو في الصلاة يدخل في مفهوم هذه الآية المباركة و هو السهو عن الصلاة؟
- السهو عن الصلاة هو عدم الاتيان بها، او تاخيرها عن وقتها لغير عذر ؛ كما مر.
و قد سئل الامام الصادق، عليه السلام، عن قوله: "الذين هم عن صلاتهم ساهون"، أهي وسوسة الشيطان؟
فقال: لا؛ كل أحد يصيبه هذا، و لكن ان يغفلها، و يدع ان يصلي في اوقاتها. أما السهو في الصلاة، وهو الخطأ و النسيان في أجزائها، فلا يخلو منه أحد، و يصحح بصلاة الاحتياط او سجدتي السهو بالتفصيل المذكور في الرسائل العملية في هذا الباب. و بناءً على ذلك، فان السهو في الصلاة خارج عن مفهوم هذه الآية المباركة.
* تحرير الانسان
• هؤلاء، كيف يراؤون في الصلاة كما جاء في قوله تعالى: "الذين هم يراؤون"؟
- الصلاة تمد المسلم بزاد الايمان الذي يحتاج اليه في كل شؤون الحياة . و من اتخذها هزوا، أو عملها رياءً فقد أفنى زاده و هلك.
والصلاة الحقيقية تحرر الانسان من شحّ ذاته، فتكون يده سخية، ينصر المظلوم، و يعين المحروم، بينما الذي يرائي في صلاته يمنع أبسط الحقوق المفروضة عليه.
* المعروف كله
• وأخيراً، وصفت الآية الكريمة هؤلاء بانهم: "يمنعون الماعون"، فما المراد بـ "الماعون"؟ ولماذا يمنعونه؟
- قالوا: الماعون: كل ما فيه منفعة. وقالوا: انه ما يتعاوره الناس بينهم من الدلو، و الفاس، و القدر، و ما لا يمنع كالماء و الملح.(6)
و ذكروا للماعون معاني أخرى مثل: المطر، الماء، المعروف، الانقياد و الطاعة، الزكاة.
و جاء في الحديث عن الامام الصادق، عليه السلام، انه قال: "هو (أي : الماعون)، القرض تقرضه، و المعروف تصنعه، و متاع البيت تعيره . ومنه الزكاة" قال الراوي : فقلت : ان لنا جيرانا إذا أعرناهم متاعا كسروه و أفسدوه، فعلينا جناح ان نمنعهم؟ فقال: "لا ليس عليك جناح ان تمنعهم إذا كانوا كذلك". (7)
و بالرغم من أنهم ذكروا اثني عشر قولا في المراد من الماعون، فان الأقوال تعود جميعا الى أمر واحد هو المعروف كله، و لكن يبدو انه المعروف الذي يعتبر الذي يمنعه خسيساً و منبوذاً اجتماعياً، لانه من النوع الذي يقارن فيه الناس عادة، مثل إعارة الظروف، و إعطاء النار و الملح و ما أشبه. و السورة - عموما - تدل على ان مكارم الاخلاق ميراث التصديق بالدين، كما ان التكذيب بالدين يورث الرذائل التي يرفضها العقل و العرف، فترى الساهين عن الصلاة يمنعون عن الآخرين حتى الماعون الذي يتبادله الناس في ما بينهم .
-------------------
(1) تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 677.
(2)تفسير القرطبي، ج 20، ص 211 .
(3) سورة المعارج، الآية 25 .
(4) تفسير الميزان، ج 20، ص 368 .
(5) تفسير الميزان، ج 20 ، ص 369 .
(6) تفسير الميزان، ج 10، ص 548.
(7) المصدر .
الكاتب: السيد جواد الرضوي
المصدر: مجلة الهدى الثقافية