«يليق بي لفت الانتباه إلى قضية حساسة تتمثل في محاولة اختراق المسيرات ورفع رايات أخرى غير الراية الوطنية من قِبَل أقلية قليلة جداً»، مضيفاً إن «للجزائر علماً واحداً استشهد من أجله ملايين الشهداء»، و«لا مجال للتلاعب بمشاعر الشعب الجزائري». هذا ما قاله رئيس أركان الجيش الجزائري، أحمد قايد صالح، في خطاب له أول من أمس من مدينة بشار في الجنوب الغربي للبلاد، مضيفاً إنه «تم إصدار أوامر صارمة وتعليمات لقوات الأمن بـ«التصدي لكل من يحاول مرة أخرى المساس بمشاعر الجزائريين في هذا المجال الحساس».
وفور انتهاء الخطاب، ظهر تفسيران لما ورد فيه: الأول أنه كان يقصد العلم الأمازيغي الذي يرمز إلى الثقافة والهوية الأمازيغيتين، وينتشر في كامل دول شمال أفريقيا، حيث يسكن الأمازيغ. ويتكون هذا العلم من ثلاثة ألوان هي: الأزرق والأخضر والأصفر، ويتوسطه حرف «الزاي» بأبجدية «التيفيناغ» الخاصة بالأمازيغ. أما الثاني، فهو أنه كان يقصد العلم الخاص بحركة «استقلال القبائل»، وهو علم يستوحي العلم الأمازيغي نفسه، لكنه يختلف عنه في الرموز والتفاصيل. وذهب أصحاب التفسير الأخير إلى أن عبارة «أقلية قليلة جداً» تشير إلى الانفصاليين، في حين أن من يرفعون العلم الأمازيغي لا يمكن وصفهم بالأقلية في الجزائر. وثمة فرق كبير بين الأمازيغية كثقافة يتبناها الملايين في الجزائر، وبين من يستعملونها كطرح انفصالي. والأخيرون هم جماعة يقودها مطرب قبائلي يُدعى فرحات مهني، ينشط من العاصمة الفرنسية باريس. وأظهر العديد من الفيديوات أن أصحاب الطرح الانفصالي يتم طردهم من المسيرات، حتى في منطقة القبائل التي ينشطون فيها، كدلالة على تشبث الأمازيغ بالوحدة الوطنية ورفض التصاق هذه الجماعة بهم.
وبغض النظر عما كان يقصده رئيس أركان الجيش، رأى البعض أنه كان في غنىً عن التطرق إلى هذه القضية التي قد تفتح المجال أمام تأويلات لا حصر لها، وتفتح ملفاً تم تجاوزه بعدما اعتُرف باللغة الأمازيغية في دستور عام 2016 كلغة رسمية، وعُيّنت بداية السنة الأمازيغية كيوم وطني مدفوع الأجر، في إجراءات خفّفت بشكل كبير من وطأة صراع الهوية في البلاد. والجدير ذكره، هنا، أن الأمازيغ خاضوا نضالاً طويلاً من أجل الاعتراف بثقافتهم، وعرف هذا النضال ذروته عام 1980 في ما سُمي «الربيع البربري»، ثم أعيد إحياء القضية عام 2001 في ما عُرف بـ«الربيع الأسود»، الذي سقط فيه عشرات الضحايا في منطقة القبائل. والأمازيغ موزعون على كل مناطق الجزائر، ويتكلمون لهجات متمايزة، لكن منطقة القبائل الواقعة على بعد 120 كيلومتراً شرقي العاصمة تُعدّ أكثر المناطق تشبثاً بالهوية الثقافية الأمازيغية.
وأثار خطاب صالح احتجاجات في أوساط مثقفين ونشطاء، سرعان ما بادروا إلى صبغ حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بالعلم الأمازيغي، وكتبوا أنهم يعتزون بهويتهم الثقافية. كما أنه أثار استهجاناً حتى خارج النخبة الأمازيغية، على اعتبار أن الجيش ينبغي أن «يترفّع عن الصراعات السياسية والأيديولوجية»، ويبقى مؤسسة تجمع كل الجزائريين. لكن اللافت أن الخطاب لقي ترحيباً في أوساط تيار بدأ يتشكل في البلاد، يتبنى موقفاً متطرفاً من المظاهر الثقافية الأمازيغية، كاللغة والراية وغيرها من الرموز. وتُعد النائبة في البرلمان، نعيمة صالحي، من أبرز وجوه هذا التيار، إذ اشتهرت بالكثير من التصريحات المثيرة ضد منطقة القبائل.
واستغلّ البعض إثارة هذه النقطة من قِبَل قائد الجيش، الذي يعتبر عملياً السلطة الفعلية في البلاد، لاتهامه بمحاولة حرف النقاش عن المسائل الحقيقية التي تشغل الجزائريين، وإفشال مطلب التغيير الجذري الذي يطالب به الحراك الشعبي، في حين تتمسك المؤسسة العسكرية بموقف صلب إزاء كل المبادرات الداعية إلى إبعاد رئيس الدولة الحالي عبد القادر بن صالح، والوزير الأول نور الدين بدوي، والذهاب إلى مرحلة انتقالية تسبق تنظيم الانتخابات الرئاسية، إذ تشدد على ضرورة الذهاب في أسرع وقت ممكن إلى الانتخابات، مع إنشاء هيئة مستقلة لتنظيمها، في ضمانة لا يراها الحراك كافية في ظلّ بقاء المنظومة الحالية.
محمد العيد - جريدة الأخبار