عيد الفطرة

السبت 8 يونيو 2019 - 05:41 بتوقيت غرينتش
عيد الفطرة

اسلاميات – الكوثر: يقول تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾1.

 

إنّه عيد الفطر، وليس عيد الإفطار.

 

لعلّ الفطر من الفطرة التي تعني الخلقة، وبتعبير أدقّ الهيئة التي فطر الله تعالى الإنسان عليها، أي خلقَ بها.

 

ففي المعرفة الدينيّة الإسلامية ما يفيد أنّ الله تعالى فطر الإنسان وخلقه بخصائص تجذبه وتميل به نحو مسارٍ طبيعيّ يوصله إلى كماله، بحيث لو ترك الإنسان وحده من دون أيّ تدخّل خارجيّ، فإنّه سيسير باختياره نحو ذلك الكمال. وقد جاء الدين هادياً إلى ذلك المسار الطبيعيّ، منبِّهاً الفطرة الإنسانية إليه.

 

ففي الحديث النبويّ المروي عند الشيعة وأهل السُنّة: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه"2، والمقصود بالأبوين هنا هو العوامل الخارجية التي تحرف الإنسان عن فطرته الطبيعيّة.

 

إنّ حال الله الذي شرّع الدين للإنسان كحال المزارع الذي يهيّئ للنبتة ما يوفّر لها ما يلائمها ممّا يحقّق نموّها وتكاملها، فيهيّئ لها الماء والهواء لتنمو، ويمنع عنها القوارض القاتلة والرياح العاتية، حتى لا تكون عائقاً في طريق نموّها.

 

والله تعالى:

- باعتباره خالقاً خلق الإنسان.

- وباعتباره لطيفاً أودع فيه فطرة تميل به، وتجذبه نحو الكمال الطبيعيّ الذي تُحقّق من خلاله غاية وجوده.

- وباعتباره حكيماً أرسل الرسالات والشرائع التي تسلك بفطرة الإنسان نحو المسار الذي تميل إليه.

الإمام علي (عليه السلام) يشير إلى هذا المعنى بقوله: "... فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول،ويُرُوهم الآياتِ المقدَّرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع"3.

 

فدور الأنبياء لم يبدأ مع الإنسان مع نقطة الصفر، بل جاء لإثارة شيء موجود في داخل الإنسان جاؤوا ليحرّكوه، ويذكّروهم به، وبالتالي يحتجّون به عليهم .

 

وهذه الفطرة كامنة لا يمكن تبديلها. وإن أمكن سترها بشكل مؤقّت، لذا اعترض القرآن الكريم على التعميد المسيحي في اليوم السابع للمولود بالماء، باعتبارهم أنّ الماء هو الذي يدخله في المسيحيّة ويصبغه بها، فقال تعالى: "صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً "4.

 

واتجاه هذه الفطرة يشمل الهدف والمسار. والهدف هو الكمال المطلق الذي ينجذب إليه الإنسان، ومن خلال هذا الانجذاب ينجذب إلى كلّ كمال.

 

لو تأمّلنا الطفل الصغير مع تحليل لحركته، فإنّا نراه يبحث عن الكمال، ويريد أن يصل إليه. حينما ينظر إلى من حوله يتحركون بالاستقلال، بينما هو يُحمل، يظنّ أنّ كماله يتحقّق من خلال حركته مستقلاَّ، فيسعى نحوها، فيحبو، لكنّه لا يجد ما صبا إليه بالحبو.

 

يلاحظ الناس يمشون على قدمين، بينما هو ما زال يحبو على أربع، فيحاول أن يمشي على رجليه، فيمشي، لكنّه لا يجد ما صبا إليه بالمشي.

 

يلاحظ الناس يعبّرون عن أفكارهم بالتكلّم، بينما هو ما زال يعبّر عنها بالبكاء والحركة، فيحاول أن ينطق، فينطق، لكنّه لا يجد ما صبا إليه بالتكلّم.

 

ويكبر الإنسان باحثاً عن الكمال الذي زُرع في فطرته النزوع نحوه والاتجاه إليه.

 

لو ترك وحده، فإنّه سيتوجّه بالاتجاه الصحيح، لكن العوامل الخارجية تدخل لتحاول أن تحرفه عن طريق كماله الحقيقي، عارضة عليه كمالات موهومة.

 

لذا بتأثيرها قد يعتقد أنّه يصل إلى كماله من خلال الحصول على المال، وقد يحصل عليه ويصبح غنيّاً، لكنّه بعد ذلك يُلاحظ أنّ النّداء الداخلي ما زال يصدر من حلق ظامئ نحو الكمال.

 

وقد يتأثّر بتلك العوامل، فتوهمه أنّه يصل كماله من خلال الوصول إلى الجاه، وقد يصل إليه، لكنّ ظمأه الداخلي يبقى دافعاً له نحو الكمال.

 

وقد توهمه تلك العوامل أنّ كماله يحصل عليه من خلال السلطة، وقد يصل إليها، ويصبح سلطان زمانه، لكنّه يبقى في داخله أسير ذلك النداء الذي يبحث عن كمال حقيقيّ.

 

قد يتّجه بتأثير تلك العوامل نحو معتقدٍ ما ليروي ذلك الظمأ، بل قد يتّجه نحو الإلحاد ليطفئ ذلك الظمأ الداخليّ نحو الكمال الحقيقيّ، لكنّه لا يجد لذلك سبيلاً.

 

ترى أين هو ذلك الكمال الحقيقيّ الذي يروي ظمأ القلب، وعطش العقل، ويحقّق الوصال المرضي؟

 

أخطأت أيها الإنسان حينما بحثت عن ذلك الكمال الحقيقيّ في الخارج الموهوم، بينما هو معك وفيك وعندك كما هو قبلك وبعدك.

 

إنّ الكمال الحقيقيّ محيط بك، كما أحاط الماء بتلك السمكة التي سمعت أنّ الماء هو إكسير الحياة، فبحثت عن الماء في الماء لكنّها لم تجد الماء، وهي تتعجّب كيف يكون الماء إكسير الحياة، وهي حيّة لا تعرف الماء.

 

إنّ الكمال الحقيقيّ هو أقرب إليك من حبل الوريد وكما قال الشاعر:

ومن عجب أنّي أحنُّ إليهمُ وأسأل عنهم من أرى وهم معي

وترصدهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي5

 

إنّ الكمال الحقيقيّ يكمن في القوة الحقّة التي يبحث عنها الإنسان والتي كانت ضالّة ذلك الباحث عن القوّة حينما قال:

بحثتُ عن أقوى الأشياء فوجدتهُ الحديد.

نظرتُ إلى الحديد فوجدت أن النار تمدِّده، فعلمتُ أن النار أقوى من الحديد.

نظرتُ إلى النار فوجدت أن الماء يطفئها، فعلمتً أنّ الماء أقوى من النار.

نظرتُ إلى الماء فوجدتُ السحاب ينزله، فعلمتُ أن السحاب أقوى من الماء.

نظرتُ إلى السحاب، فوجدتُ أن الرياح تجرُّه فعلمتُ أن الرياح أقوى من السحاب.

نظرتُ إلى الرياح، فوجدتُ أن الجبال تصدُّها فعلمتُ أن الجبال أقوى من الرياح.

نظرتُ إلى الجبال، فوجدتُ أن الإنسان يعلوها، فعلمتُ أن الإنسان أقوى من الجبال.

نظرتُ إلى الإنسان، فوجدتُ أنَّ النوم يسكتُه، فعلمتُ أن النوم أقوى من الإنسان.

نظرتُ إلى النوم، فوجدتُ أن القلق يذهبُه، فعلمتُ أن القلق أقوى من النوم.

نظرتُ إلى القلق، فوجدتُ أن الاطمئنان يعدمه، فعلمتُ أن الاطمئنان أقوى من القلق.

عندها علمتُ معنى قول ربّي: " ألا بذكر الله تطمئن القلوب"

 

إنّ الكمال الحقيقيّ مزروع في فطرتك. أرجع إليها لتعرفه، وكما يقول الإمام الخميني (قده): "فيا أيها الهائمون في وادي الحيرة، والضائعون في صحاري الضلالات، بل أيّتها الفراشات الهائمة حول شمعة جمال الميل المطلق، ويا عشّاق الحبيب الخالي من العيوب، والدائم الأزليّ، عودوا قليلاً إلى كتاب الفطرة، وتصفّحوا كتاب ذاتكم، لتروا أنّ الفطرة الإلهيّة قد كُتبت فيه بقلم القدرة (وُجّهتُ وَجْهيَ للّذي فَطَرَ السّمَاوَاتِ والأَرْضَ)6"7.

 

إنّها دعوة لإزالة الساتر عن الفطرة الذي أصبح به الإنسان كافراً أي ساتراً فطرته، كذلك الكافر الذي يسأل الإمام الصادق (عليه السلام) أن يدلّه على الله، فأجابه الإمام سائلاً؟ "يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال: نعم، قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟ قال: نعم، قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك؟ فقال: نعم، قال الصادق (عليه السلام): فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث"8.

 

إنّها دعوة لنفض غبار العوامل الخارجيّ التي أدّت إلى تغيير فطرة الإنسان.

 

وهنا يُطرح السؤال الآتي: ما الطريقة التي اعتمدها الله تعالى، ووسّط الرسل فيها ليوجّه الفطرة نحو كمال الإنسان؛ ليسير في سبيل كماله دون انحراف عنه، وانزلاق دونه.

 

والجواب يكمن في شهر رمضان.

ففيه يسلك الإنسان سلوك الشعور بوجود الله انطلاقاً من داخله.

فالصائم لا يكون صائماً بحركة يقوم بها، ولا بقول يتلفّظ به، بل بنيّة داخليّة يشعر من خلالها بوجود الله ومراقبته له.

سلام الله تعالى على الزهراء حينما قالت (عليها السلام) – حينما ورد عنها-: "جعل الله الصيام تثبيتاً للإخلاص"9.

والقائم في شهر رمضان، وفي أسحاره تتحرّك فطرته من خلال الشعور بالأنس بالله تعالى حيث لا أنيس غيره.

 

والداعي في لياليه العظيمة يستحضر الإنسان كمالات الله التي يتوجّه إليها من خلال مناجاته بها:

- اللهم إنّي أسالك باسمك يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا كريم، يا مقيم، يا عظيم، يا قديم، يا عليم، يا حليم، يا حكيم.

- يا حبيب من لا حبيب له، يا طبيب من لا طبيب له، يا مجيب من لا مجيب له.

- يا خير مؤنس وأنيس، يا خير صاحب وجليس، يا خير مقصود ومطلوب، يا خير حبيب ومحبوب.

إنّ شهر رمضان هو شهر تفعيل الفطرة الجاذبة نحو الله، وذلك من خلال تزكية النفس التي توصل إلى الفلاح، وهذا ما نردّده في صلاة العيد في سورتي الأعلى والشمس، بقوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا"10.

 

والتزكية نفس التنمية، والتنمية فرع وجود الأصل ألا وهو الفطرة، من هنا فإنّ التزكية هي تفعيل للفطرة الجاذبة نحو الله، فمن نجح في ذلك، فاليوم هو يوم فطره وعيد فطرته.

 

وكلّ يوم يحافظ الإنسان على مسار فطرته فهو يوم فطره ويوم عيده وكما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) "كلّ يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد".

 

إنّ نداء اليوم هو أن نحافظ على مكتسبات استقامة الفطرة في شهر رمضان فنجنّب أنفسنا عن ارتكاب المحارم وما ذلك إلا بخير درع ولباس وهو التقوى.

 

عباد الله، أوصيكم بتقوى الله فإنّ خير الزاد التقوى.

 

سماحة الشيخ أكرم بركات

 

1- سورة الروم، الآية 30.

2- المصدر السابق، ج58، ص187.

3- الإمام علي، نهج البلاغة، تحقيق محمد عبده، ط1، قم، دار الذخائر، 1412، ج1، ص 23.

4- سورة البقرة، الآية 138.

5- محمود، مصطفى، القرآن كائن حي، (لا،ط)، بيروت، دار العودة، (لا،ت)، ص50.

6- سورة الأنعام، الآية 79.

7- الإمام الخميني، منهجية الثورة الإسلامية، ص 7.

8- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، تحقيق السيد إبراهيم الميانجي ومحمد الباقر البهبودي، ط 2، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1983م، ج3، ص41.

9- المصدر السابق، ج93، ص368.

10- سورة الشمس، الآية 9.