المؤامرة الدنيئة
شهد موسم الحج جمع من الخوارج فتذاكروا من قتل من رفاقهم ومن قتل من سائر المسلمين وقد جعلوا تبعة ذلك على ثلاث من الكفار ـ في زعمهم ـ وهم: الامام أمير المؤمنين، ومعاوية، وعمرو بن العاص فقال ابن ملجم: انا أكفيكم على بن أبي طالب، وقال عمرو بن بكير التميمي: أنا أكفيكم عمرو بن العاص، وقال الحجاج بن عبد الله الصريمي أنا اكفيكم معاوية، واتفقوا على يوم معين يقومون فيه بعملية الاغتيال وهو اليوم الثامن عشر من شهر رمضان سنة اربعين من الهجرة، كما عينوا ساعة الاغتيال وهي ساعة الخروج الى صلاة الصبح، ثم تفرقوا وقصد كل واحد منهم الجهة التي عينها، ووصل الأثيم ابن ملجم الى الكوفة، وهو يحمل معه الشر والشقاء لجميع سكان الأرض، فقد جاء ليخمد ذلك النور الذي اضاء الدنيا، وقد قصد الماكرة الخبيثة ابنة عمه قطام، وكان هائما بحبها، وكانت تدين بفكرة الخوارج وقد قتل أبوها وأخوها فى واقعة النهروان فكانت مثكولة بهم، وقد خطبها ابن ملجم فلم ترض به زوجا إلا أن يشفى غليلها، ويحقق اربها، فقال لها:
«ما تريدين شيئا الا أنفذته وحققه..»
فعرضت عليه المهر الذي تريده وهو ثلاثة آلاف درهم، وعبد وقينة وقتل علي، فقال لها الأثيم:
«ما سألت هو لك مهر الا قتل على فلا أراك تدركينه» وقد قصد إخفاء الأمر عليها، ولكن الاثيمة اندفعت تحبذ له قتل الامام وتشجعه على ارتكاب الجريمة قائلة:
«إن أصبته شفيت نفسي ونفعك العيش، وإن هلكت فما عند الله خير لك من الدنيا» ولما عرف الأثيم الجد فى قولها عرفها بنيته، وأنه ما جاء لهذا المصر إلا لهذه الغاية، وفى هذا المهر المشوم يقول الفرزدق:
ولم أر مهرا ساقه ذو سماحة
كمهر قطام من فصيح واعجم
ثلاثة آلاف وعبد وقينة
وضرب على بالحسام المسمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلى
ولا فتك إلا دون فتك ابن ملجم
وقد أوجس أصحاب الامام الخوف عليه من اغتيال الخوارج فتكلموا معه في أن يجعل له رصدا يحرسونه إن خرج لعبادة الله او في بعض مهامه، فامتنع (ع) من ذلك وقال لهم:
« إن عليَّ من الله جُنّة حصينة فاذا جاء يومي انفرجت عنى واسلمتني، فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم »
الفاجعة الكبرى
ولما أطل على الوجود شهر رمضان، أفضل الشهور، واعظمها حرمة وقدرا عند الله حتى نسب إليه فقيل شهر الله، كان الامام على علم بانتقاله إلى حضيرة القدس في ظرف هذا الشهر العظيم، فكان يتناول طعام الافطار الليلة عند الحسن، وأخرى عند الحسين، ومرة عند عبد الله بن جعفر وهو لا يزيد فى طعامه على ثلاث لقم، ويحدث عن السبب فى قلة اكله قائلا: «أحب أن يأتيني أمر الله، وأنا خميص البطن»
ولما أقبلت الليلة الثامنة عشرة من شهر رمضان اضطرب الامام أشد الاضطراب، فجعل يمشي في صحن الدار وهو محزون النفس خائر القوى ينظر إلى الكواكب ويتأمل فيها فيزداد همه وحزنه، وهو يقول متنبّئا عن وقوع الحادث الخطير في تلك الليلة:
«ما كذبت، ولا كذبت، إنها الليلة التي وعدت فيها»
وبقي «ع» طيلة تلك الليلة، قلقا حزينا يناجي ربه ويطلب منه المغفرة والرضوان، ويتلو آى الذكر الحكيم، وقبل أن تشرق أنوار الفجر وينسلخ ظلام الليل القاتم، أقبل فسبغ الوضوء، ولما عزم على الخروج من بيته الى مناجاة الله وعبادته في بيته الكريم صاحت في وجهه وز كانت قد أهديت الى الحسن، فتنبأ «ع» من صياحهن وقوع الحادث العظيم والرزء القاصم قائلا:
«لا حول ولا قوة إلا بالله، صوائح تتبعها نوائح»
وأقبل الحسن وهو مضطرب من خروج أبيه في هذا الوقت الباكر فقال له:
ـ ما أخرجك في هذا الوقت؟
ـ رؤيا رأيتها فى هذه الليلة أهالتني.
ـ خيرا رأيت، وخيرا يكون قصها على.
ـ رأيت جبرئيل قد نزل من السماء على جبل أبي قبيس، فتناول منه حجرين، ومضى بهما الى الكعبة، فضرب احدهما بالآخر فصارا كالرميم، فما بقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله من ذلك الرماد شيء ـ ما تأويل هذه الرؤيا؟
ـ إن صدقت رؤياي، فان أباك مقتول، ولا يبقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلا ودخله الهم والحزن من أجلى.
فالتاع الحسن وذهل وانبرى قائلا بصوت خافت حزين النبرات:
ـ متى يكون ذلك؟
ـ إن الله تعالى يقول (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) ولكن عهد الي حبيبي رسول الله (ص) أنه يكون في العشر الأواخر من شهر رمضان، يقتلني عبد الرحمن بن ملجم.
ـ إذا علمت ذلك فاقتله.
ـ لا يجوز القصاص قبل الجناية والجناية لم تحصل منه.
وأقسم الامام على ولده الحسن أن يرجع الى فراشه، فلم يجد الحسن بدا من الامتثال وخرج الامام الى بيت الله في السحر، وقد جاء فى الأخبار أن السحر وقت تجلى الله فينفح فيه الرحمات ويهب به البر والخير ويستجيب فيه الدعاء.
ولما انتهى الامام الى بيت الله، جعل على عادته يوقض الناس لعبادة الله ومناجاته، وحينما فرغ من ذلك شرع في صلاته، وبينما هو ماثل بين يدي الخالق الحكيم والصلاة بين شفتيه وقلبه مشغول بذكر الله إذ هوى عليه الوغد الأثيم ابن ملجم وهو يهتف بشعار الخوارج (الحكم لله لا لك) وضرب الامام على رأسه فقد جبهته الشريفة التي طالما عفرها بالخضوع لله بكل ما للخضوع من معنى، وانتهت الضربة القاسية إلى دماغه المقدس الذي ما فكر إلا فى نفع الناس وسعادتهم ورفع الشقاء عنهم، ولما احس عليهالسلام بلذع السيف في رأسه صاح:
«فزت ورب الكعبة»
لقد فاز الامام، وأى فوز اعظم من فوزه؟ فقد جاءته النهاية المحتومة وهو بين يدي الله وذكره بين شفتيه، فى أقدس بيت، واعظم شهر.
لقد فاز إمام الحق لأنه أرضى ضميره الحي فلم يوارب ولم يخادع منذ بداية حياته حتى النهاية، ولقد قتل على غير مال احتجبه ولا على دنيا أصابها ولا سنة في الاسلام غيرها.
لقد فاز الامام، وأى فوز أعظم من فوزه؟ فقد أفاض عليه الخلود لباس البقاء ليكون مظهرا للعدالة وعنوانا للحق. ومثالا للانسانية الكاملة التي ارتقت سلم الكمال حتى بلغت نهايته.
لقد فاز الامام، وأى فوز اعظم؟ من أن يذكر قرينا للحق والعدل وتذكر مبادئه المقدسة اعجوبة لقادة الفكر الانساني يسيرون على ضوئها للعمل في حقل الاصلاح، ولما وقع الامام صريعا في محرابه هتف معرفا بقاتله:
«قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم، فلا يفوتنكم.»
فهرع الناس الى المسجد بجميع طبقاتهم وهم معولون نادبون قد اذهلهم الخطب وروعهم المصاب وبلغ بهم الحزن الى قرار سحيق وفى مقدمتهم أولاد أمير المؤمنين، فوجدوا الامام طريحا في محرابه وجعدة ابن هبيرة وجماعة حافون به يعالجونه للصلاة وهو لا يستطيع ولما وقع نظره على ولده الحسن أمره أن يصلى بالناس وصلى الامام وهو جالس والدم ينزف منه، ولما فرغ الحسن من صلاته أخذ رأس أبيه فوضعه في حجره ودموعه تتبلور على وجهه الشريف، فقال له:
ـ من فعل بك هذا؟
ـ ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم.
ـ من أي طريق مضى؟
ـ لا يمض أحد فى طلبه، إنه سيطلع عليكم من هذا الباب، وأشار الى باب كندة، فاشتغل الناس بالنظر إليها وما هي إلا فترات وإذا الصيحة قد ارتفعت فقد ظفر بالأثيم المجرم ابن ملجم فجيء به مكتوفا مكشوف الرأس، فأوقف بين يدى الحسن فقال له:
«يا ملعون، قتلت أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، هذا جزاؤه حين آواك وقربك حتى تجازيه بهذا الجزاء».
والتفت الى أبيه قائلا: يا أبة هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم قد أمكننا الله منه. ففتح الامام عينيه وقال له بصوت خافت:
«لقد جئت شيئا إدا وأمرا عظيما، ألم أشفق عليك واقدمك على غيرك في العطاء؟ فلماذا تجازيني بهذا الجزاء؟» وقال للحسن يوصيه ببره والاحسان إليه.
«يا بني ارفق بأسيرك وارحمه، واشفق عليه.»
فقال له الحسن:
«يا أبتاه، قتلك هذا اللعين، وفجعنا بك، وأنت تأمرنا بالرفق به!!»
فاجابه أمير المؤمنين:
يا بني نحن أهل بيت الرحمة والمغفرة، أطعمه مما تأكل، واسقه مما تشرب، فإن أنا مت فاقتص منه بأن تقتله، ولا تمثل بالرجل فإنى سمعت جدك رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور وإن أنا عشت فأنا أعلم ما أفعل به، وأنا أولى بالعفو، فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا إلا عفوا وكرما.»
وأمر (ع) بحمله إلى الدار فحمل والناس تهرول خلفه قد أشرفت على الهلاك من البكاء والعويل قد أخذتهم المائقة وهم يهتفون بذوب الروح:
قتل إمام الحق، قتل إمام الحق.
واستقبلته بناته وعياله بالبكاء والعويل ولما استقر في ثويه، التفت إليه الحسن وقد حرق الهم والجزع قلبه قائلا:
«يا أبة، من لنا بعدك؟ إن مصابنا بك مثل مصابنا برسول الله» فضمه الامام وقال مهدا روعه:
يا بني، اسكن الله قلبك بالصبر، وعظم أجرك، وأجر اخوتك بقدر مصابكم بي.
وجمع الحسن لجنة من الاطباء لمعالجته وكان ابصرهم بالطب أثير بن عمرو السكوني فاستدعى برئة شاة حارة فتتبع عرقا منها فاستخرجه فأدخله في جرح الامام ثم نفخ العرق فاستخرجه فاذا هو مكلل ببياض الدماغ، لأن الضربة قد وصلت الى دماغ الامام فارتبك أثير والتفت إلى الامام ـ واليأس في صوته ـ قائلا:
«يا أمير المؤمنين، اعهد عهدك، فانك ميت»
فالتفت الحسن إلى أبيه ودموعه تتبلور على وجهه، وشظايا قلبه يلفظها بنبرات صوته قائلا:
«أبة. كسرت ظهري، كيف أستطيع أن أراك بهذه الحالة؟» وبصر الإمام فرأى الأسى قد استوعب نفسه فقال له برفق:
«يا بنى لا غم على أبيك بعد هذا اليوم ولا جزع، اليوم القى جدك محمد المصطفى، وجدتك خديجة الكبرى، وأمك الزهراء، وإن الحور العين ينتظرن أباك ويترقبن قدومه ساعة بعد ساعة، فلا بأس عليك، يا بني لا تبك.»
وتسمم دم الإمام، ومال وجهه الشريف إلى الصفرة، وكان في تلك الحالة هادئ النفس قرير العين لا يفتر عن ذكر الله وتسبيحه وهو ينظر إلى آفاق السماء، ويبتهل إلى الله بالدعاء قائلا:
«إلهي. أسألك مرافقة الأنبياء، والأوصياء وأعلى درجات الجنة» وغشى عليه فذاب قلب الحسن وجعل يبكى مهما ساعدته الجفون، فسقطت قطرات من دموعه على وجه الإمام فأفاق، فلما رآه قال له مهدأ روعه:
«يا بني ما هذا البكاء؟ لا خوف ولا جزع على أبيك بعد اليوم، يا بني لا تبك، فأنت تقتل بالسم، ويقتل أخوك الحسين بالسيف.»
وصاياه
وأخذ الإمام يوصى أولاده بمكارم الاخلاق، ويضع بين أيديهم المثل الرفيعة ويلقي عليهم الدروس القيمة، وقد وجه «ع» نصائحه الرفيعة أولا لولديه الحسن والحسين، وثانيا لبقية أولاده ولعموم المسلمين.
قائلا:
«أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا وإن بغتكما ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا للحق واعملا للأجر، وكونا للظالم خصما وللمظلوم عونا.
أوصيكما، وجميع ولدى وأهلي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله، ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فاني سمعت جدكما صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول: صلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصيام. الله الله في الأيتام، فلا تغبوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم، والله الله في جيرانكم، فانهم وصية نبيكم، ما زال يوصى بهم حتى ظننا أنه سيورثهم والله الله في القرآن، لا يسبقكم بالعمل به غيركم، والله الله في الصلاة، فانها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم، لا تخلوه ما بقيتم فانه إن ترك لم تناظروا والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم والسنتكم فى سبيل الله، وعليكم بالتواصل والتباذل وإياكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم.»
ثم قال عليهالسلام مخاطبا لآله وذويه:
«يا بني عبد المطلب لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين خوضا تقولون قتل أمير المؤمنين، قتل امير المؤمنين، ألا لا تقتلن بي إلا قاتلى
انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه فاضربوه ضربة بضربة، ولا يمثل بالرجل، فاني سمعت رسول الله (ص) يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور»
وأخذ (ع) يوصى ولده الحسن خاصة بمعالم الدين وإقامة شعائره قائلا:
«أوصيك، اى بني، بتقوى الله، وإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة عند محلها وحسن الوضوء، فانه لا صلاة إلا بطهور، واوصيك بغفر الذنب وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عن الجاهل والتفقه فى الدين، والتثبت في الامر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب الفواحش»
وفي اليوم العشرين من شهر رمضان ازدحمت الجماهير من الناس على بيت الامام طالبين الإذن لعيادته، فأذن لهم إذنا عاما، فلما استقر بهم المجلس التفت لهم قائلا:
«سلوني قبل أن تفقدوني، وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم»
فأشفق الناس أن يسألوه، نظرا لما ألم به من شدة الألم والجرح.
إقامة الحسن من بعده
ولما علم أمير المؤمنين أنه مفارق لهذه الدنيا، وأن لقاءه بربه لقريب عهد بالخلافة والإمامة لولده الحسن فأقامه من بعده لترجع إليه الأمة في شؤونها كافة، ولم تختلف كلمة الشيعة في ذلك فقد ذكر ثقة الإسلام الكليني أن أمير المؤمنين أوصى إلى الحسن، وأشهد على وصيته الحسين ومحمدا وجميع ولده، ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتب والسلاح، وقال له: يا بني. أمرني رسول الله (ص) أن أوصى إليك، وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلي رسول الله، ودفع إلي كتبه وسلاحه وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين.»
وروى أيضا أنه قال له: «يا بني أنت ولي الدم فإن عفوت فلك وإن قتلت فضربة مكان ضربة»
إلى الرفيق الأعلى
ولما فرغ الإمام أمير المؤمنين من وصاياه أخذ يعاني آلام الموت وشدته، وهو يتلو آي الذكر الحكيم ويكثر من الدعاء والاستغفار، ولما دنا منه الأجل المحتوم كان آخر ما نطق به قوله تعالى (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) ثم فاضت روحه الزكية إلى جنة المأوى وسمت إلى الرفيق الأعلى وارتفع ذلك اللطف الإلهي إلى مصدره فهو النور الذي خلقه الله ليبدد به غياهب الظلمات.
لقد مادت أركان العدل وانطمست معالم الدين، ومات عون الضعفاء وأخو الغرباء وأبو الايتام.
تجهيزه ودفنه
وأخذ الحسن (ع) في تجهيز أبيه فغسل الجسد الطاهر وطيبه بالحنوط، وأدرجه في اكفانه، ولما حل الهزيع الأخير من الليل خرج ومعه حفنة من آله وأصحابه يحملون الجثمان المقدس الى مقره الأخير فدفنه في النجف الأشرف حيث مقره الآن كعبة للوافدين ومقرا للمؤمنين والمتقين ومدرسة للمتعلمين، ورجع الامام الحسن بعد أن وارى أباه الى بيته وقد استولى عليه الأسى والذهول وأحاط به الحزن.
القصاص من ابن ملجم
وفي صبيحة ذلك اليوم الخالد فى دنيا الأحزان طلب الامام الحسن احضار المجرم الأثيم عبد الرحمن بن ملجم فلما مثل بين يديه قال له ابن ملجم:
ـ ما الذي أمرك به أبوك؟
ـ أمرني أن لا أقتل غير قاتله، وأن أشبع بطنك وانعم وطأك، فان عاش اقتص أو عفا وإن مات ألحقتك به.
فقال الأثيم متبهرا:
«إن كان أبوك ليقول الحق، ويقضي به في حال الغضب والرضا!!» ثم إن الإمام الحسن ضربه بالسيف فاتقى اللعين الضربة بيده فبدرت ثم جهز عليه فقتله ولم يمثل به «وحلت على ابن ملجم لعنة الله ولعنة اللاعنين ومن ولدوا ومن ماتوا ومن قال الله لهم: كونوا فكانوا!! لعنة تجفف النبع وتخضم الزرع، وتحرق النبت في الارض وهو وسيم، وجعل الله زفير جهنم وشهيقها في أصول تكوينه! وأهلكه الف شيطان كبوه على وجهه في سواء الجحيم وفيها لفح وفيها أفواه من اللهب ذات أجيج وذات صفير» (١)
__________________
(١) الامام علي صوت العدالة الانسانية ٤ / ١٠٠٣
المصدر: حياة الإمام الحسن بن علي (ع) - ج ١، باقر شريف القرشي