لقد تصور في بداية مواجهته لإيران، أنه سيجد قوما جبناء ممتلئين بالخوف، وأنه بمجرد التهديد والوعيد، سيرسلون له الرسائل، ويتوسلون له أن يكف عنهم شره، ليزيد بذلك أوسمة جديدة تمكنه من نهب المزيد من الثروات التي يجلبها بزئيره.. لكنهم لم يفعلوا.
راح يمزق الاتفاقية التي أمضاها سلفه، واتفق عليها جميع المجتمع الدولي، وأهان بذلك دولته أعظم إهانة، حتى لم تبق لكلمتها سمعة بين الدول.. لكن الإيرانيين لم يلتفتوا لتمزيقه، ولا لإمضائه الغريب الذي يريد أن يضمه إلى زئيره حتى ينشر الرعب في نفوس من يلاحظ ظاهرته العجيبة التي تستعمل الظهور بمظهر القوي العنيف لتمرر مشاريعها، وتمارس لصوصيتها.
وفرح الأعراب بذلك التمزيق، وتصوروا أن رقبة إيران صارت بين أيديهم، وأن حبيبهم ترامب قد طوق عنقها بيديه، وصار يخنقها.. فراحوا يغدقون عليه كل ما تعلموه من كرم حاتم..
راح ترامب يزيد في وتيرة عدائه، لعله يتسلل إلى نفوس الإيرانيين، ويقضي على مكامن الشجاعة والكرامة والشهامة فيهم.. فأخذ يكرر كل حين أنه سيصفر الصادرات الإيرانية، وسيجوع الإيرانيين، وأنهم سيخرجون لأجل ذلك على بكرة أبيهم، ليقضوا على نظامهم.. لكنه فوجئ بالملايين تخرج، لا للثورة على نظامها، وإنما للمشاركة في تكسير أنياب النمر الورقي.
أوحى له صديقه النسر العزيز بولتون بأن يرسل المدمرة، وقال له: إن الكلام وحده لا يكفي .. فلا يقضي على شجاعة الإيرانيين وشهامتهم وكرامتهم سوى المدمرة.. اسمها وحده يكفي.
ثم طلب منه أن ينشر صورها في جميع وسائل الإعلام، وأن يبالغوا في وصفها بقدر ما أتيح لهم.. حتى يصاب الإيرانيون بالرهاب، فيتواضعوا ويذلوا ويخنعوا.. لكنه فوجئ بالتصريحات التي تأتيه من جهات متعددة، وتقول له: أنت وصديقك ترسلان لنا المزيد من فرص الصيد، وتمكنون أسلحتنا من الوصول السهل للأهداف الدسمة التي نريدها.
وقالوا له: أنتم الآن بقوتكم المحيطة بنا لستم سوى أهداف عارية سهلة، يمكننا أن نجعلها جميع لقمة سائغة في أفواهنا.
بعد أن ضاقت نفس ترامب، راح يفعل مثل ذلك التاجر الذي يريد أن يحافظ على سمعته أمام الفئران التي تعود أن يسرقها، فلذلك طلب منهم أن يحدثوه هاتفيا.. فلم يفعلوا .. أرسل لهم بهاتفه .. فلم يلتفتوا له.. وظلوا في نفس كلامهم الذي كانوا يرددونه منذ أربعين سنة.
راح يحذف الشروط التي وضعها أول مرة.. شرطا شرطا.. ولم يبق إلا شرط واحد، هو التفاوض على الملف النووي، لكنه فوجئ بالمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، وهو يشير بأصبعيه قائلا، وبكل قوة: لا تفاوض، ولا حرب..
لم يجد المسكين نفسه إلا وأنفه قد مرغ بكل أنواع الوحل والتراب.. وهو محتار ماذا يفعل مع هذا الشعب العجيب الذي حوصر وحورب، ومع ذلك لا يزال مقاوما، وبكل الوسائل، وبمنتهى العزة والكرامة.
لا نملك نحن الذين نشاهد هذه المواقف الأمريكية والإيرانية إلا أن نتأسف ونحزن على إخواننا العرب الذين تركوا شجاعة عنترة بن شداد، وبطولة عروة بن الورد، وعزة المهلهل بن ربيعة، وراحوا يحولون من أنفسهم عبيدا أذلاء، يهينهم سيدهم الذي باعوه أنفسهم بكل أنواع الإهانة في نفس الوقت الذي يتحدث فيه عن إخوانهم الذين اعتبروهم أعداء بكل صيغ التقدير، وصدق الشاعر حين قال:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ
ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ !
بقلم: الدكتور نور الدين - الجزائر