بدء شهر رمضان المبارك هو في الحقيقة عيد كبير للمسلمين ومن المناسب أن يبارك المؤمنون لبعضهم حلول هذا الشهر ويتواصوا بالاستزادة منه أكثر فأكثر. ولأنه شهر الضيافة الإلهية لذلك يجلس المؤمنون والمؤهلون لدخول هذه الضيافة فقط إلى مائدة الخالق المنان الكريم. هذا ما عدا مائدة الكرم الإلهي العامة التي يتزود منها كل البشر بل كافة مخلوقات العالم. هذه مائدة الخواص وضيافة المقربين إلى الله.
القضية الأساسية بشأن شهر رمضان هي أن يجد الإنسان - المحاصر بشتى أسباب الغفلة عن الله وعن صراطه والذي تجره الدوافع المختلفة عادةً نحو الهبوط والانحطاط - فرصة يدفع فيها روحه نحو العروج والاعتلاء، وروح الإنسان وبواطنه ميّالة نحو العروج والاعتلاء.. ويجد الفرصة كذلك للتقرب إلى الله وإلى الأخلاق الإلهية. شهر رمضان المبارك ربيع التجديد وبناء الإنسان لذاته والاستئناس بخالقه.
بركات رمضان تبدأ من الأفراد المسلمين الذين يرومون الدخول في هذه الضيافة الإلهية.. تبدأ من القلوب. الحقيقة الأولى التي تتأثر ببركات هذا الشهر هي قلوب المؤمنين وأرواح الصائمين والداخلين إلى الأعتاب المقدسة المباركة لهذا الشهر. صيام هذا الشهر من ناحية، وتلاوة القرآن الكريم فيه من ناحية أخرى، والاستئناس بالأدعية الواردة في هذا الشهر من ناحية ثالثة أعمال تضع الإنسان حيال عملية تزكية وتهذيب وتنقية باطنية وكلنا بحاجة إلى هذه التنقية.
شهر رمضان في كل سنة قطعة من الجنة يبعثها الله إلى جحيم عالمنا المادي المحرق ويمنحنا الفرصة كي ندخل الجنة بفضل المائدة الإلهية الممدودة في هذا الشهر. البعض يدخلون الجنة في هذه الأيام الثلاثين فقط. والبعض يدخلون الجنة مدة عام بزخم تلك الأيام الثلاثين.. والبعض يدخلونها مدى العمر. والبعض يمرون بجوارها غافلين ما يبعث على الأسف والخسران.
الإنسان الذي يكتسب بفضل شهر رمضان المقدرة على مقارعة أهوائه النفسية يحرز مكسباً عظيماً يجب عليه أن يحفظه ويصونه. الإنسان الذي يعاني من عادة الاستجابة لأهوائه وشهواته القبيحة بمقدار ما يستطيع، إذا تمكن في شهر رمضان من التغلب على عادته هذه فعليه المحافظة على مكسبه هذا. كل تعاسة الإنسان وليدة اتباعه لأهوائه النفسية. كل صنوف الظلم والتزيين والإحجاف والحروب الظالمة والحكومات الفاسدة وحالات الاستسلام والخضوع للظلم بين الشعوب ناجمة عن اتباع الأهواء النفسية والاستسلام أمام نزعات النفس. إذا اكتسب الإنسان المقدرة على التغلب على ميوله النفسية لأصاب الفوز والفلاح. وشهر رمضان يوفر لكم هذه الفرصة.
إذاً، أساس القضية هو اجتناب المعاصي ولابد أن نسعى في شهر رمضان للابتعاد عن الذنوب بالتمارين الروحية وترويض النفس والتحدث إليها. إذا ابتعد الذنب عنّا تفتّحت أمامنا السبل للعروج إلى ملكوت السماوات، وسيستطيع الإنسان السير في السبيل المعنوي الإلهي والتحليق إلى الأعالي المقررة له. لكن أعباء الذنب وأثقاله تحول دون هذا التحليق. شهر رمضان فرصة جيدة للابتعاد عن الذنب.
الصيام الذي نذكره كواجب إلهي هو في الحقيقة تشريف إلهي ونعمة إلهية، وفرصة قيمة جداً للصائمين.. وفيه صعوبات طبعاً. كل الأعمال المباركة المفيدة لا تخلو من صعوبة. لا يصل الإنسان إلى شيء من دون المصاعب والمتاعب. هذا المقدار من الصعوبة الذي يرافق الصيام شيء قليل ورصيد ضئيل قياساً إلى ما يعود به على الإنسان. يمنح الإنسان هذا الرصيد القليل فيصيب به ربحاً عظيماً.
ذكروا للصيام ثلاث مراحل وكل واحدة منها مفيدة لأصحاب الصيام. إحدى المراحل هي المرحلة العامة للصيام، أي اجتناب الأكل والشرب وسائر المحرمات. ولو لم يكن في صيامنا غير هذا المحتوى وغير هذا الإمساك لكان في ذلك منافع كثيرة. إنه عمل يمثل امتحاناً بالنسبة لنا ويعلّمنا في نفس الوقت..هو درس لنا واختبار في حياتنا. إنه تمرين ورياضة. ثمة رواية عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام يقول فيها: »ليستوي به الغني والفقير«... أوجب الله تعالى الصيام ليتساوى الغني والفقير في هذه الساعات والأيام. الإنسان المسكين الفقير لا يستطيع أن يشتري ويأكل ويشرب كل ما حلا له طوال النهار، بينما الغني يتوفر له كل ما رغب فيه وأراده. الغني لا يتفهّم حال الفقير وجوعه وضعفه عن طريق تحصيل الأشياء التي يشتهيها ويرغبها، أما حين يصوم يتساوى الجميع ويُحرم الغني باختياره من مشتهيات نفسه.
الإنسان الذي يذوق طعم الجوع والعطش يفهم معنى هذا ويكتسب القدرة على الصبر حيال الصعاب التي قد تعتر ي الطريق. شهر رمضان يمنح الإنسان الصبر وتحمل الشدائد. يهدي للإنسان الصبر على أداء التكليف كرياضة إلهية. هذه المرحلة وحدها تنطوي على كل هذه المنافع. فضلاً عن فراغ البطن من الطعام واجتناب الممارسات المباحة للإنسان في الحال العادية، يمنح الصيام للإنسان نوراً ولطفاً جد مغتنم وقيم.
المرحلة الثانية من الصيام هي اجتناب المعاصي، أي صيانة الأذن والعين واللسان والقلب، وفي بعض الروايات صيانة بشرة الإنسان وجلده وشعره من الذنب.كما تجتنبون الطعام والشراب ومشتهيات النفس تجتنبون الذنب أيضاً. هذه مرحلة أرقى للصيام. فرصة شهر رمضان فرصة مغتنمة كي يتمرن الإنسان على اجتناب الذنب.
إذاً المرحلة الثانية من مراحل الصيام هي أن يستطيع الإنسان الإقلاع عن الذنوب، وخصوصاً أنتم الشباب الأعزاء أوصيكم باستثمار هذه الفرصة. أنتم شباب وللشباب القدرة والقوة ولهم أيضاً قلوب نقية نيّرة، وهذا بحد ذاته فرصة متاحة لهم. استثمروا هذه الفرصة طوال شهر رمضان وتمرّنوا على اجتناب المعاصي كثاني مرحلة من مراحل الصيام.
المرحلة الثالثة من الصيام اجتناب أي شيء يلهي ذهن الإنسان وضميره عن ذكر الله. وهذه هي المرحلة العليا من الصيام. حينما يحيي الصيام ذكر الله في القلب ويضيء أنوار معرفة الله في الفؤاد سوف يتنوّر القلب، لذلك سيضر الصائم في هذه المرحلة أي شيء يلهي الإنسان ويغفله عن ذكر الله. طوبى للذين يستطيعون الارتقاء بأنفسهم إلى هذه المرحلة.
شهر رمضان شهر الدعاء والتزود من التقوى. الشهر الذي ينبغي أن تزداد فيه قدراتنا الروحية والمعنوية ببركة العبادة والتوجه للخالق، فنقطع بفضل هذه القدرات الروحية والمعنوية الطرق الوعرة بسرعة وسهولة ونجتاز الدروب بمسيرة جيدة.
شهر رمضان شهر الاستزادة من القوة.. شهر يجب فيه على كل واحد من الناس إيصال نفسه إلى الخزائن الغيبية والمعنوية الإلهية والتزود هناك بمقدار ما يستطيع وإعداد نفسه للتقدم. منظومة شهر رمضان وما تشمله من صلوات وواجبات مقررة دائمية وصيام وأدعية وتلاوة للقرآن.. حيث قيل إن رمضان ربيع القرآن - إذا تنبهتم لها جيداً لكانت دورة لإعادة بناء الذات واكتشافها وإنقاذها من العفن والفساد. إنها دورة مغتنمة جداً.
نوّروا قلوبكم في شهر رمضان - في كل الأيام والليالي - بذكر الله ما استطعتم إلى ذلك سبيلاً حتى تستعدوا لدخول ساحة »ليلة القدر« المقدسة: »ليلة القدر خير من ألف شهر، تنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر« ليلة تربط فيها الملائكة الأرض بالسماء، وتنوّر القلوب وبيئة الحياة بأنوار الفضل واللطف الإلهيين. ليلة السلم والسلامة المعنوية.. سلامة القلوب والأرواح.. ليلة شفاء الأمراض الأخلاقية والمعنوية والمادية والأمراض العامة والاجتماعية التي طالت اليوم للأسف كثيراً من شعوب العالم بما في ذلك الشعوب المسلمة! التعافي من كل هذا ممكن وميسور في ليلة القدر شريطة أن تدخلوا ليلة القدر مستعدين.
ينال الإنسان في كل عام فرصة استثنائية من خالق العالم هي فرصة شهر رمضان المبارك. القلوب ترقّ طوال شهر رمضان والأرواح تتلألأ وتتألق، ويستعد الإنسان للدخول في وادي الرحمة الإلهية الخاصة فيتزود كل فرد من الضيافة الإلهية العظيمة بقدر استعداده وهمته وسعيه. وبعد أن ينتهي هذا الشهر المبارك يكون يوم بدء العالم الجديد يوم عيد الفطر. أي اليوم الذي يستطيع فيه الإنسان بدء مسيرته على الصراط الإلهي المستقيم واجتناب السبل المنحرفة بفضل ما تزوده في شهر رمضان. عيد الفطر يوم استلام الأجر ومشاهدة الرحمة الإلهية بعد شهر رمضان.
ثمة نقطة تتعلق بيوم عيد الفطر ألا وهي القرار الجاد للاستعداد على طول السنة إلى حلول شهر رمضان المقبل. إذا أراد الإنسان المشاركة في الضيافة الإلهية في شهر رمضان من كل سنة وإذا أراد الدخول في ساحة ليلة القدر وتلك الليالي المباركة فعليه المراقبة والاستعداد طوال الأشهر الإحدى عشرة التي تسبق شهر رمضان. قرروا أن يكون سلوككم الحياتي في العام المقبل بحيث يتقبلكم شهر رمضان وتكون الضيافة الإلهية حلوة مباركة عليكم. هذا هو أعظم فيض يمكن للإنسان أن يظفر به ويكون وسيلة للنجاح في كافة شؤون الدنيا والآخرة والأمور المتعلقة بشخص الإنسان وأقربائه ومجتمعه الإسلامي.
إذا دخلنا شهر رمضان باستعداد تزودنا من الضيافة الإلهية أكثر وارتقينا في العام الآتي درجة ومستوى أعلى. عندئذ ستشاهدون في نفوسكم وقلوبكم ومحيط حياتكم الاجتماعية ما يرضيكم ويسركم.
الإمام الخامنئي
المنار