استطاعت الألمانية مارجو فولك أن تبقى على قيد الحياة من بين سيدات كثيرات نفذن نفس المهمة، فقطّع السمّ أمعاءهن لينقذن بذلك هتلر من موت محقق، ويرسمن بعد مغادرتهن الدنيا نهائيا سطرا جديدا في حياة الزعيم الألماني، ونظرا لما كان يمثله هتلر في تلك الفترة بشخصيته الاستثنائية التي دفعها غرورها الشديد لاستعباد العالم، فقد كان من البديهي أن يكون هدفا للتصفية الجسدية من أعداءه في الداخل والخارج على حد سواء بطريقة من الطرق، فكان هذا العمل بمثابة إجراء احترازي من هتلر خوفا من خيانة محتملة كما كان يفعل السلاطين في قديم الزمان.
الاستهتار بحياة البشر وتكريس مبدأ العبودية في العصر الحديث لا يختلف عن العصور الغابرة، والعبودية ليست شيئاً من الماضي بل واقعاً حياً في كافة دول العال
والأصعب أنها كانت تخاطر بحياتها في سبيل شخص لم تره في حياتها قط، فقد صرحت مارجو فولك البالغة من العمر اليوم 95 سنة "لم أر هتلر مرة واحدة في حياتي، وكان عليّ المخاطرة بحياتي يوميا لأجله"، وقالت "كنت أنفجر بالدموع وأبكي مثل الكلاب، أنا وزميلاتي بعد أداء تجربة الطعام لأننا لا زلنا على قيد الحياة".وأدت فولك هذه الوظيفة بمحض الصدفة، بعد أن لجأت لإحدى البلدات في برلين عقب تجنيد زوجها في الجيش، فأجبرها رئيس البلدية على خدمة هتلر بالقوة تحت إجراءات أمنية مشددة.
استمرت فولك الألمانية ابنة موظف السكك الحديدية في مهمتها هذه قرابة العامين، قبل أن ينقذها أحد الجنود الألمان إذ أرسلها على متن قطار إلى برلين، لتهرب من العذاب الذي كانت تموت بسببه كل يوم، علمت بعد ذلك أن البنات المستعبدات اللواتي كن يتذوقن طعام هتلر ويؤدين نفس المهمة لم يتمكن من الهروب فأعدمهن الجيش الأحمر رميا بالرصاص بعد الاجتياح، وتم القبض عليها في نهاية المطاف من قبل الجيش السوفيتي ليمارس في حقها كل ألوان العذاب والاضطهاد، إلى أن تمكنت أخيرا من لقاء زوجها الذي ظل على قيد الحياة وأكملت مسيرتها معه عام 1946.
تحكي مارجو فولك جانبا من المعاناة التي تسببها صراعات البشر فيما بينهم، وما يلحق الإنسانية بسببها من ألم ودمار عبر العالم، وإلى أي مدى يصل جشع المهووسين بالسلطة والهيمنة على كل شيء، إلى درجة تتخطى كل الحدود وتتجاوز كل المبادئ والأخلاق، حين يلغون من الوجود كل الاعتبارات في سبيل بسط نفوذهم وتحقيق أهدافهم المتهورة.
الاستهتار بحياة البشر وتكريس مبدأ العبودية في العصر الحديث لا يختلف عن العصور الغابرة، والعبودية ليست شيئاً من الماضي بل واقعاً حياً في كافة دول العالم، إذ يخطئ من يظن أن عصر الاستعباد قد ولى، فالرق تغير شكلاً لكنه بقي مضموناً، وما زجُّ البشر في حروب طاحنة لا أول لها ولا آخر لتحقيق مآرب سياسية، ليس إلا وجها من أوجه الاستعباد في هذا العصر، يضاف إلى ذلك الدعارة والاستغلال الجنسي والعمل الجبري بدون مقابل والزواج القسري وبيع واستغلال الأطفال وما إلى ذلك، ويقال أن جزءا من البيت الأبيض رمز الهيمنة الأمريكية اليوم تم تشييده من طرف العبيد، وما زال الإنسان حتى يومنا هذا في عدد من الدول الإفريقية يعامل معاملة العبيد، مثلما كان يحدث مع الرق أيام الإمبراطورية الرومانية والانجليزية وغيرهما، ورغم صيحات المنظمات الإنسانية وجمعيات حقوق الإنسان عبر العالم، والتي تعمل جاهدة على محاربة كل أشكال الاستغلال ضد الجنس البشري إلا أن الاستهتار بحياة البشر وتجاوز الحق في العيش بصورة طبيعية، ما زال قائما إلى اليوم كقدرٍ محتوم يُتوارث عبر العصور.