بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، سيّما بقيّة الله في الأرضين.
أوّلاً، أنا مسرور جدّاً أن وفّقنا الله نحن الإيرانيّين مرّة أخرى للأنس بالقرآن بمعية إخوة مسلمين لنا من بلدان أخرى. فمسابقات القرآن الدولية معناها اجتماع جماعة من الإخوة المسلمين من مختلف أنحاء العالم حول القرآن ومحور القرآن. وهذا شيء ينبغي معرفة قدره. فأتقدّم أوّلاً، بالشكر للقائمين على هذا الحدث الطيب المحبّب، وأشكر منظّمة الأوقاف وسائر العاملين. وثانياً أرحّب بكلّ الحضور المحترمين، والمشاركين وخاصّة الضيوف من البلدان الأخرى.
المهمّ هو أن نعرف قدر القرآن. القرآن ليس للتلاوة فقط، فتلاوة القرآن مقدّمة لفهم القرآن واكتساب المعرفة القرآنية. هذا ما ينبغي أن نحقّقه لأنفسنا. إذا كانت التلاوة تلاوة صحيحة وحسنة فيجب أن تمنحنا فائدتين اثنتين: الأولى أن تعمّق معنوياتنا وروحنا المعنوية وتكرّسها، فنحن غرقى الأمور المادّية، والبشر بحاجة إلى التوجّه المعنوي والروح المعنوية، وهذا ما يحصل بتلاوة القرآن إذا ما تلوناه تلاوة حسنة، هذا أوّلاً، ثانياً أن نمدّ فكرنا ونغذّيه بالمعرفة القرآنية، بمعنى أنّ القرآن يؤثر في قلوبنا ويؤثر أيضاً في أذهاننا. وإن أنسنا بالقرآن فستتجلى الكثير من مفاهيم الحياة لنا. فالإنحرافات، وسوء الفهم، واليأس، وخيانات البشر بعضهم لبعض، وعداؤهم لبعضهم البعض، وإذلال الإنسان نفسه مقابل طواغيت العالم وما إلى ذلك، هذه كلّها ناجمة عن البعد عن القرآن. فالقرآن يمنحنا المعنوية ويمنحنا أيضاً المعرفة.
والقرآن كتاب سعادة البشر بلا شك، سعادة الدنيا والآخرة. ليس القرآن لسعادة الآخرة فقط، فهو يؤمّن ويضمن سعادة الدنيا أيضاً. سعادة الدنيا تعني التمتع بالنعم الإلهية في هذه النشأة. هذا ما يمكن تأمينه بالقرآن. يمكن للشعوب أن تنال العزّة بالقرآن ومن خلال العمل به، فتحقّق الرّفاه وتكتسب العلم وتنال القوّة والقدرة وتكتسب الوحدة والانسجام، وتوجد لنفسها أسلوب الحياة الطيّبة بالقرآن. هذه كلّها أمور دنيوية. والآخرة أيضاً التي هي الحياة المعنوية والحقيقيّة والأبدية المستمرة، تتحقّق بالقرآن. إذاً، القرآن كتاب سعادة الدنيا والآخرة، شريطة أن نعمل به، وننظر ماذا يقول القرآن.
لاحظوا! إنّ الأمثلة على عدم العمل بالقرآن فيما بيننا نحن الأمّة الإسلامية، ليست واحدة أو اثنتين، ومشكلاتنا ناجمة عن هذا الشيء. لنفترض على سبيل المثال أنّ القرآن يقول عن أتباع الرسول: "أشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَينَهُم تَراهم رُكَّعًا سُجَّدًا يَبتَغونَ فَضلًا مِنَ اللهِ وَرِضوانًا" (2). بعضنا ينسى "أشداء على الكفار" ويدعها جانباً. مثل من؟ مثل هؤلاء الذين تحالفوا في البلدان الإسلامية مع أمريكا ومع الصهاينة وداسوا على دماء الفلسطينيين بأقدامهم وضيّعوا حقوقهم. هؤلاء نسوا "أشدّاء على الكفار" وصاروا خدماً للكفار وتابعين لهم ومنفّذين لأوامرهم. الكثير من زعماء الدول العربية الآن من هذا القبيل. هؤلاء فئة، والفئة الأخرى نسوا "رحماء بينهم". وأوجدوا الخلافات بين المسلمين "وَالمُؤمِنونَ وَالمُؤمِناتُ بَعضُهُم أولِياء بَعض" (3)، هذا ما يقوله القرآن.
فعندما يأتي هؤلاء ويكفّرون المؤمن بالله، والمؤمن بالقرآن، والمؤمن بالكعبة، والمؤمن بالقبلة ويقولون عنه إنّه كافر. فإنّهم [بذلك] ينسون "رحماء بينهم". عندما لا يكون "التراحم بين المؤمنين" موجوداً تنشب الحروب الداخلية في البلدان الإسلامية، ولكم أن تلاحظوا ما يحصل اليوم في سوريا، وفي اليمن. فمنذ أكثر من أربعة أعوام واليمن يتعرّض للقصف. ومن الذي يقوم بالقصف؟ هل هو كافر؟ لا، إنّه مسلم، مسلم بالظاهر لكنّه لا يرحم المسلمين. هذا هو معنى "الذين جعلوا القرآن عضين"(4). أي الذين يعملون ببعض القرآن؛ "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض"(5)؟ والكثير من هؤلاء الآن، لا يؤمنون بشيء من القرآن. إذاً، تلاوة القرآن مقدّمة للعمل والمعرفة والتعرّف.
فلننظر بدورنا ما الذي نستطيع فعله على الصعيد العملي؟ الأمر الأوّل، أن لا ننسى ذكر الله، ومن ثمّ، أن نجعل تقوى الله معياراً لأعمالنا. هذه أعمال بسيطة وممكنة وليست مستحيلة لنقول: "وكيف ذلك؟" فلتذكروا الله تعالى "يا أيّها الذين آمنوا اذكروا اللّه ذكرا كثيرا و سبّحوه بكرة و أصيلا"(6). وليفكّر الانسان عندما يريد القيام بأيّ فعل، هل هذا الفعل يوافق رضا الله أم لا؟ فإذا لم يحرز أنّه مخالف لرضا الله فلا إشكال فيه، لكن ليحذر من أن يكون مخالفاً لرضا الله. هذا هو الذكر الإلهي، فالذكر ليس باللسان فقط. والتوجّه بهذا المعنى هو ذكر لله. ثمّ التقوى؛ الهداية القرآنية تُسبَغ على المتّقين. ومعنى التقوى هو أن نراقب أنفسنا ونرصدها، نراقب أنفسنا تماماً كالشخص الذي يعبر طريقاً ضيّقاً تحيط به الهاوية من الجانبين. هنا ستنظرون موطىء أقدامكم في أيّ خطوة تخطونها. لقد جرى تشبيه التقوى في الروايات بالسير في منطقة مليئة بالأشواك، فيُقال حاذروا هنا أن تعلق ملابسكم أو جببكم وعباءاتكم الطويلة [كما نلبس نحن] أو سراويلكم بهذه الأشواك، أو أن تدخل الأشواك في أقدامكم. سوف تراقبون وتحذرون، وكيف تراقبون؟ هذا هو معنى التقوى. معناها أن تكونوا حذرين لكي لا تعلقوا في حقل أشواك عالم الوجود وعالم المادة هذا، حيث تحيط الأشواك بالإنسان من كل ناحية. وللتقوى مراتبها حتماً. ومرتبتها العليا خاصّة بالذين يضحّون بأنفسهم. رحمة الله ورضوانه على ذلك الشهيد العزيز(7) الذي علّمنا هذه العبارة وهي: إنّك إذا اجتزت أسلاك نفسك الشائكة، فيمكنك أيضاً أن تجتاز الأسلاك الشائكة للعدوّ. رضوان الله على هؤلاء الشهداء، فلقد علّمونا الكثير من الأشياء.
والآن، فإنّ هذا الحراك الذي ترونه في إغاثة المتضرّرين بالسيول في خوزستان والمناطق الأخرى، فهو من تعليم الشهداء. وإنّها لظاهرة عجيبة بين البلدان اليوم، هذه الحركة الشعبية العظيمة من كافة أنحاء البلاد نحو المناطق المتضرّرة بالسيول؟ فهل لاحظتم ذلك؟ ففي خوزستان بنحو، وفي لرستان بنحو، وفي إيلام بنحو، وفي مازندران بنحو، وفي گلستان بنحو؛ حيث يذهب الناس، والشباب إلى تلك المناطق ويتصدّون إلى جانب الشباب المحلّيين هناك لأعمال الإغاثة، بأجسامهم وأيديهم وإمكانياتهم، وبعضهم بأموالهم ومساعداتهم العينية وهداياهم. لقد انطلقت حركة عظيمة، وهذه حالة نادرة في العالم! الآن، في مختلف مناطق العالم، تذهب الأجهزة والمؤسسات المسؤولة كالهلال الأحمر، أو بعض المؤسسات الحكوميّة ويقومون بأعمال معينة، أمّا أن يتحرّك الناس وأفراد الشعب هكذا كالسيل، فهذه ظاهرة مهمّة. وهذه دروس شهدائنا.
أيّها الشباب الأعزاء! غالبيّتكم شباب، ولم تشهدوا تلك الأيام، ففي الستينيات [الثمانينيّات من القرن العشرين للميلاد] وفي فترة الدفاع المقدّس كان الشباب يتحرّكون هكذا بشوق واندفاع وحيويّة، ويذهبون للتضحية. "فَمِنهُم مَن قَضى نَحبَه وَ مِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَما بَدَّلوا تَبـديلًا"(8)، بعضهم استشهد فهنيئاً لهم، وبعضهم رجع سالماً، فليحذر الذين رجعوا سالمين ولينتبهوا للحفاظ على سلامتهم، هذه تعاليم القرآن ودروسه التي تأخذ بيد الشباب هكذا إلى ساحات العمل وتحرّك الإنسان المؤمن.
أعزّائي، فلتأنسوا بالقرآن أكثر! ما أشدّد عليه وأوصي به هو أن تأنسوا به أكثر. هذا الذكر الإلهي والتقوى اللذان أشرنا إليهما، إذا ما تحقّقا فينا فستكون الهداية القرآنية أسهل بالنسبة إلينا. لأنّه "هُدًى لِلمُتَّقينَ"(9) عندما تكون التقوى موجودة تكون الهداية حتمية. ولأنّ هذا القرآن يهدي البعض ويضلّ البعض. "يضلّ به من يشاء ويهدي به من يشاء"(10)، هكذا هو، يأخذ البعض إلى ذلك الجانب ويهدي البعض. والهداية للمتقين. كلّما كانت التقوى أعلى كانت الهداية أوضح وأرقى. ينبغي أن نتابع هذا الطريق.
نشكر الله تعالى أنّ شعبنا أقبل، بحمد الله، على الهداية القرآنية، ولم يكن الحال في يوم من الأيام كما هو عليه اليوم. لم يكن شيء من هذا موجوداً في بلادنا خلال عهد الطاغوت. لم يكن هذا الأنس بالقرآن، وهذا الالتذاذ بتلاوة القرآن، وهذا السعي لحفظ القرآن، وهذا الاندفاع لفهم مطالب القرآن ومفاهيمه. وإذا ما كان لنا قارئ في ذلك الحين مثلاً فكان يقرأ القرآن من دون فهم، واليوم، بحمد الله، يقرأ شبابنا القرآن ويفهمونه، يفهمون ما يقرأون. علينا أن نعزّز هذا الأمر ونرسّخه يوماً بعد يوم.
اعلموا أنّ ما يقوم به الأعداء اليوم من ممارسات عدائيّة ضدّ الجمهورية الإسلامية بنحو، وضدّ الأمة الإسلاميّة بنحو ـلكنّ العداء ضد الجمهورية الإسلامية أظهر وأوضحـ يمثّل الأنفاس الأخيرة لعدائهم ضد الجمهورية الإسلامية. وكلّما تشدّدوا أكثر قويت إرادتنا أكثر. وكلّما ضيّقوا علينا ازددنا قوّة. وكلّما ازداد غضبهم من التزامنا بالمفاهيم والمعارف القرآنية ازداد تمسّكنا بالقرآن أكثر بتوفيق من الله. التمسّك بالقرآن مصدر سعادتنا وقوّتنا، وسبب عزّتنا، ونسأل الله تعالى أن يزيد هذا التمسّك فينا يوماً بعد يوم، وأن يوصلنا إلى تلك الأهداف الذي حدّدها لنا القرآن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
----------------
الهوامش:
1 ـ في بداية هذا اللقاء الذي أقيم في ختام مسابقات القرآن الكريم الدولية السادسة والثلاثين، تحدّث ممثّل الوليّ الفقيه ورئيس منظّمة الأوقاف والشؤون الخيريّة السيّد مهدي خاموشي.
2 ـ سورة الفتح/ 29 .
3 ـ سورة التوبة/ 71 .
4ـ سورة الحجر/ 91.
5ـ سورة البقرة/ 85.
6ـ سورة الأحزاب/ 41 و 42.
7ـ الشهيد علي شيت سازيان.
8ـ سورة الأحزاب/ 23
9ـ سورة البقرة / 2
10ـ سورة النحل.