وبعد، فنحن في أيّام شهر شعبان المباركة، وهذا الشهر أيضًا فيه من المواسم والذكريات والمحتويات ما تجعله صالحًا للاعتبار والتنبه والتهيؤ لمقابلة شهر رمضان، ولإصلاح النفس، ولجعل الإنسان في أجواء حقيقية من الروحيات والأخلاقيات والبطولات.
هذا الشهر حسب ما ورد في الدعاء، شهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، نقرأ في دعاء شهر شعبان مع الزوال هذه الفقرات من الصلوات على رسول الإسلام وعلى آل بيته، تلك الفقرات التي تبدأ بالصلاة على شجرة النبوّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، ومعدن العلم وأهل بيت الوحي.
في هذه الأدعية والصّلوات، نجد هذه الجملة: وهذا شهر نبيّك سيّد رسلك شعبان الّذي حففته منك بالرّحمة والرّضوان، والذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدأب في صيامه وقيامه، في لياليه وأيّامه، بخوعًا لك في إكرامه وإعظامه إلى محلّ حمامه.
هذا الشهر في أوّله مولد الإمام الحسين (عليه السلام)، الذي يصادف اليوم الثالث من هذا الشّهر، ثم مولد الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين في الخامس من هذا الشّهر، وهناك روايات تؤكّد أنّ مولد السيدة زينب (سلام الله عليها) أيضًا في هذه الأيّام، يعني في الثالث والخامس من هذا الشهر. ثم بعد ذلك في الخامس عشر من شهر شعبان، مولد صاحب الزمان الإمام الثاني عشر والمهدي المنتظر.
ومولد صاحب الزمان (سلام الله عليه أو عجّل الله فرجه)، بالنسبة إلى عقيدتنا، العقيدة الشيعية، حدّ العقيدة. ولهذا، كان علماؤنا الأبرار وسلفنا الصّالح يسعون سعيًا بليغًا في إحياء ذكرى مولد صاحب الزّمان، والتأكيد على تعظيمه، لأن في إحياء هذه الذكرى معاني كثيرة، نتحدّث عنها إن شاء الله في الجمعة القادمة.
حدّ العقيدة، لأنّ الإيمان بوجود صاحب الزمان وبحياته وغيبته هو إكمال للعقيدة الشيعية بصورة عامّة، وعلى هذا الأساس، علينا أن نحيي هذه الذكرى وأن نتفّهم معانيها. وبعد ذلك، وفي الخامس عشر من هذا الشّهر أيضًا، وفاة الإمام موسى بن جعفر (سلام الله عليهما).
والشهر بحدّ ذاته شهر رسول الله، شهر الاستعداد للقاء الله، وللدّخول في ضيافة الله في شهر رمضان المبارك. هذا الشّهر الذي هو شهر رسول الله في واقعه، موطن لذكريات الأئمّة الأطهار: الحسين (عليه السلام)، وعليّ بن الحسين، والإمام موسى بن جعفر، والإمام صاحب الزمان، ومع ذلك، فهو شهر رسول الله.
شهر رسول الله، ونحن نقرأ في أدعيتنا وفي أذكارنا اليومية، نبعث بالتحيات إلى آل بيته. هذه الأدعية التي تُقرأ مع الزوال، كلّها في الدّعاء لرسول الله ولآل بيته:
"اللّهمّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد، شجرة النبوَّة ـ يعني آل محمّد هم شجرة النبوّة ـ وموضع الرِّسالة، ومختلف الملائكة، ومعدن العلم، وأهل بيت الوحي. اللّهمّ صلِّ على محمد وآل محمد، الفلك الجارية في اللّجج الغامرة، تأمن من ركبها، وتُغرق من تركها. المتقدّم لهم زاهق، والمتأخّر عنهم ماحق، واللازم لهم لاحق.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، الكهف الحصين، وغياث وملاذ المضطرّ المستكين، ورحمة العالمين. اللّهمّ صلِّ على محمد وآل محمد، صلاة طيّبة، تكون لهم رضى، ولمحمّدٍ وآل محمد، صلاةً ودعاءً.
اللّهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد، واعمر قلبي بطاعتك، ولا تخزني بمعصيتك. وارزقني مواساة من قتّرت عليه من رزقك، بما وسَّعت عليّ من نعمتك. وهذا شهر نبيّك سيّد رسلك، شعبان الذي حففته منك بالرّحمة والرّضوان. والذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، يدأب في صيامه وقيامه، في لياليه وأيامه، بخوعًا لك في إكرامه وإعظامه. اللّهمّ فأعنّا على الاستنان بسنّته فيه، ونيل الشّفاعة لديه. اللّهمّ فاجعله لي فيه شافعًا مشفّعًا، وطريقًا إليك مهيعًا، حتى ألقاك يوم القيامة عنّي راضيًا، وعن ذنوبي قاضيًا. قد أوجبت لي منك الرّحمة والرّضوان، وأنزلتني دار القرار، ومحلّ الأخيار".
كما شاهدتم في هذه الفقرات الدّعاء والصلوات على رسول الله وعلى آل بيته، وهذا هو تعميق للربط بين الصلاة على رسول الله وبين آل بيته. وهو قال وأكّد [على] الأمة ألا تصلّي عليه صلاة بتراء، ويعني بالصّلاة البتراء الصلاة التي تشمله دون آل بيته، ولهذا أدّبنا آل البيت أنّنا حينما نريد أن نصلّي على رسول الله نقول: اللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد.
والسّبب في ذلك، الربط الوثيق بين الصلاة على رسول الله وبين الصلاة على آل بيته، والربط الوثيق بين وجود رسول الله ورسالة رسول الله ووجود آل البيت الذي هو استمرار لتلك الرّسالة. فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلّغ وأدّى الرّسالة، ولكن أكّد قبل أن يترك أمّته أنّه تارك في الأمّة الثقلين: كتاب الله، وعترته آل بيته. واعتبر أنّ وجوده في أمّته معلّق على وجود هذين الركنين: القرآن الكريم، مرجع الأمّة، وقاعدة الفكر الإسلاميّ والدعوة الإلهية، وآل البيت القيّمون على هذه الدعوة. فرسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اكتملت بوجود آل البيت، ليس لآل البيت (سلام الله عليهم) دين خاصّ أو مذهب خاصّ، ولا نؤمن نحن أنّ الله يوحي إليهم كما كان يوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالرسالة انقطعت وتمّت، وكان الله أعلن في يوم من رسالة الرسول: ﴿اليومَ أكملْتُ لكم دينَكُم وأتممْتُ عليْكُم نعمتي ورضيْتُ لكم الإسلامَ دينًا﴾[المائدة، 3].
فالرسالة الإلهية والدعوة الإسلامية قد تمّت في أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن دور آل البيت دور رساليّ أيضًا، لأنهم كانوا من محمد، ومحمد كان منهم، كما ورد في حقّ الإمام الحسين: "حسين مني، وأنا من حسين"، وكما ورد في حقّ الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) حينما يقول: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"، ويقول: "أنا وعليّ من شجرة واحدة، وسائر النّاس من أشجار شتّى"، ويقول: "عليّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، يدور معه أينما دار". ويقول، وهذا هو التّعبير الحقيقيّ عن دور أمير المؤمنين (عليه السلام): "أنا مدينة العلم، وعليّ بابها". والحقيقة أننا آمنّا بأنّ الرسالة الإلهية قد اكتملت مع دعوة الرّسول ومع وفاة الرّسول، ولكن الرسول إلى من بلّغ؟
أرجو الانتباه إلى هذه النقطة، هذه نقاط من صلب الإيمان، ربما غير واضحة لبعض أبنائنا وإخواننا. نحن لا نشكّ في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلّغ الرسالة، كلّ الرّسالة لأمّته؛ لكن لجميع أفراد أمّته؟ طبعًا لا! لأنّ جميع أفراد أمّته ما كانوا عالمين بجميع محتويات الرّسالة ومبادئ العقيدة، بل بلّغ الرسالة ولو جزئيًّا لبعض أبناء الأمّة، يعني ما ترك شيئًا في نفسه، ما أخفى شيئًا من أسس الرّسالة ومبادئ الدين إلا وبيَّنها، لكن بيَّنها لمن؟ هذا هو السؤال.
هل بيّنها للجميع؟ نحن نعرف أنّه لا. ما أكثر الناس الذين ما كانوا يعرفون مبادئ الرسالة! بل بلّغها لأهلها، فلنفتش عن أهلها. فور وفاة رسول الله، وفي أيام خلافة الخلفاء، التاريخ والفقه يؤكّدان أن كثيراً من الأحكام وكثيراً من المواضيع الدينية... كان الأمر يُطرح على صحابة الرسول؛ كبارهم وصغارهم، وكانوا لا يعرفون ما كتب الله، وما قال رسول الله، وما نزل الوحي بها. ما كانوا يعرفون، فكانوا يفتّشون ويفتّشون ويضطرّون إلى أن يسألوا أهله، أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكانوا يسألونه، فيجيبهم بحكم الله فيه.
وقد أحصيت مرّة في بعض كتب الفقه، فوجدت اثني عشر حكمًا كلّيًّا عامَّا في مواضيع مختلفة يسجّلها التاريخ ويسجّلها الفقه. عند من كانت هذه الأحكام؟ عند عليّ بن أبي طالب. لماذا عنده؟ لأنّه كان يعيش مع رسول الله في سلمه وحربه، في سفره وحضره، في ليله ونهاره، دون حجاب. فالسّيرة تدلّ على أنّ الرسول الأكرم (عليه الصلاة والسلام) كان يدخل على عليّ وهو في الفراش، كان لا يفارقه لحظة.
بعد أن رجعوا من واقعة أُحد، وكان الإمام قد جُرِح ستة وثلاثين جرحًا -كما يقول الحديث- يدخل من أحدها الفتيل ويخرج من الآخر. يقول الرّاوي: دخلت على عليّ مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نسأل عن صحّته وحتى نعودَه، فحينما رآه رسول الله بهذه الحالة، كأنه مضغة من اللحم مفروشة على نطع -على جلد-، جرى الحديث بينه وبين رسول الله، ثم أعلن الرّسول الجهاد.
بعد ذلك قال عليّ (عليه السلام): وأنا معك يا رسول الله، وحينما تعجّب النّاس واستفسره الرّسول، قال له عليّ بن أبي طالب: "يا رسول الله، بأبي أنت وأمّي، والله لو حملوني على الأكتاف لما تركتك لحظة". هذه العِشرة الطّويلة المديدة من بدء الطفولة، وقد كان عمره ستّ سنوات، إلى أن ارتحل إلى لقاء الله، وكان في أحضان عليّ بن أبي طالب...
هذه العِشرة الطويلة مع ذكاء عليّ بن أبي طالب، وصفاء قلبه، وحبّه لرسول الله، وإيمانه العميق، بطبيعة الحال، يبلغه إلى درجة يقول هو (عليّ بن أبي طالب): "علَّمني رسول الله ألف باب من العلم، من كلّ باب ينفتح ألف باب".
فإذًا، ما أكثر الأحكام الكلية والمعاني الجديدة للقرآن والمفاهيم الصحيحة والمواقف الإسلاميّة الحقيقيّة التي كانت مخزونة في صدر عليّ وأبناء عليّ! ولهذا جعلهم عديلًا للقرآن الكريم، حينما قال: "إني تارك فيكم الثّقلين: كتاب الله وعترتي". فإذًا، رسالة الرّسول تمَّت لا شكَّ في هذا، وبلّغها رسول الله لا شكّ في هذا. لكن لمن بلّغها؟ لأبناء أمّته، لأهله.
فإذًا، حاجة الأمّة إلى الإمام بعد رسول الله لا تقتصر فقط على مبدأ القيادة والولاية، ولهما شأن كبير، بل حتى لاستخراج أحكام الله، ولمعرفة التعاليم الإلهيّة التي كانت مخزونة في صدور ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾[النَّحل، 27]. الروايات تعبِّر عنهم بمستودع وحي الله، وخزائن وحي الله.
هذا لا يعني أنّنا نقول إنَّ الإمام كان يُوحى إليه، أبدًا! ولكن قلب عليّ كان مستودع علم رسول الله، أو بتعبيره هو، كان عليّ باب مدينة علم رسول الله، فمن أراد المدينة فليأتها من أبوابها بطبيعة الحال.
فإذًا، الرسالة المحمديّة (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى من جانب الرّسالة، لا تتمّ بلا عليّ وبلا أبنائه وبلا أئمَّته. وهذا واضح في تاريخ الفقه، أيّام الخلفاء وبعدهم. تعال إلى كتب الفقه تجد الفرق، وتجد الأحكام، وتجد المواقف، وتجد الروايات والتفاسير المختلفة عن القرآن الكريم عن طريق آل البيت.
فإذًا، هناك ربط وثيق بين رسول الله وبين هؤلاء، هؤلاء النّاس، هؤلاء الأئمَّة. فإحياء ذكراهم ذكرى رسول الله، والصّلاة على رسول الله صلاة عليهم، وأيّام مواليدهم ووفياتهم وذكرياتهم وشعائرهم شهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تنفصل. وما أكثر الرَّبط بين الرّسول وبين هؤلاء! كما قال: "وأنا من حسين"، تريد ربطاً أكثر من هذا؟! يعني هو من حسين، ماذا يعني "من حسين"؟ يعني جدّه؟! هذا لا يقال إنّه من...! الإسلام من حسين.
وما أكثر التّعبيرات الواردة في حقّ الإمام (سلام الله عليه)، أمير المؤمنين، وفي حقّ الإمام الحسن، وفي حقّ الإمام الصّادق والباقر أيضًا... حينما وقفوا أمام الأمواج الحضارية الهائلة التي كانت تأتي من أقطار العالم إلى المجتمع الإسلامي، فكان لهم مواقف وتصرّفات وأجوبة مستنبطة ومخزونة عندهم من علم رسول الله، كانوا يضعون النقاط على الحروف والأمور في مواضعها. ولهذا قادوا الأمّة قيادة صحيحة. ولو كنّا نحن نتمسّك بوضعهم وتعاليمهم تمسّكًا صحيحًا كما يقول الرّسول، لما كنّا نشعر بالضّلال في هذا اليوم.
*محاضرة للإمام الصّدر بمناسبة شهر شعبان، بتاريخ 17 تشرين أوّل 1969، تسجيل صوتي من محفوظات مركز الإمام موسى الصّدر للأبحاث والدّراسات.