انقسمت الآراء حول هذا التصريح المدروس الذي أطلقه وزير الخارجية التركي متعمدا من الدوحة حيث اعترف الرئيس السوري بشار الأسد في أحد لقاءاته التلفزيونية قبل شهرين بأن هناك اتصالات تجريها دولة قطر لاستعادة العلاقات مع بلاده، بعد أن استعادت علاقاتها مع “حزب الله” في لبنان، وأقامت تحالفا استراتيجيا مع طهران.
ـ المدرسة الأولى: تقول إن الحكومة التركية التي باتت على وشك شن عملية هجومية ضد قوات الحماية الشعبية الكردية التي تشكل العمود الفقري لقوات سورية الديمقراطية وتتمركز في شمال شرق سورية، ربما تتطور إلى صدام مع القوات الأمريكية في المنطقة، تريد “تلطيف” العلاقات مع دمشق، وبطلب روسي تمهيدا لفتح قنوات حوار، وربما عودة العلاقات بين البلدين.
ـ المدرسة الثانية: ترى أنها “مناورة” تركية الهدف منها تحييد السلطات السورية في الأزمة الحالية مع الولايات المتحدة، فكلما واجه الاتراك “أزمة ما” في الملف السوري، وباتوا على وشك الصدام مع واشنطن، سربوا رسائل حول استعدادهم للتقارب مع دمشق، ولكن بعد زوال الأزمة مع أمريكا تعود القيادة التركية إلى موقفها المعادي للرئيس بشار الأسد وحكومته، ويضرب أنصار هذه المدرسة مثلا بما ذكره السيد بن علي يلدريم، رئيس الوزراء التركي، في آب (أغسطس) الماضي من أن الرئيس بشار الأسد يمكن أن يبقى في الحكم رئيسا مؤقتا للبلاد لكن لا يمكن أن يظل طرفا في مستقبل سورية”، فقد جرى تفسير هذا التصريح بأنه إيحاء بقرب حدوث انفراجة في العلاقات التركية السورية، ولكن الرئيس رجب طيب أردوغان عاد إلى الهجوم بشراسة على الرئيس السوري واستخدم عبارات قوية، ناسفا بذلك أي أمل بالتقارب بين البلدين.
من الصعب علينا ترجيح صوابية أي من المدرستين، ولكن ما يمكن أن نقوله أن هناك حالة من “الغزل” المتصاعد بين أنقرة ودمشق هذه الأيام برعاية روسية، بعد حدوث بعض التراجع في الموقف التركي المتشدد في المسألة السورية أولا، وتزايد قوة الدولة السورية، وإحكام سيطرتها على معظم الأراضي السورية، وضعف المعارضة المسلحة وحدوث تغيير في المزاج السوري العام تجاهها.
اللافت أن الطرفين الكردي والتركي، باتا يخطبان ود الدولة السورية هذه الأيام، فقيادة وحدات حماية الشعب الكردية التي تسيطر على ما يقرب من نصف المناطق السورية في شمال شرق الفرات، طلبت مساعدة القيادة السورية لحماية المناطق التي تسيطر عليها بعد إعلان الرئيس أردوغان عن عزم بلاده إطلاق حملة عسكرية في غضون أيام لتخليص شرق الفرات من سيطرة “الإرهابيين” في إشارة إلى قوات الحماية الكردية.
تركيا باتت تدرك جيدا أن قوات سورية الديمقراطية التي تشكل قوات الحماية الكردية عمودها الفقري، باتت تشكل خطرا على أمنها القومي بحكم تعاظم قوتها قرب حدودها الجنوبية بدعم أمريكي تحت ذريعة مشاركتها في الحرب على (داعش)، وما يقلق تركيا التي انحازت إلى قطر في الأزمة الخليجية وأرسلت 35 ألف جندي للمرابطة في قاعدة لها قرب العديد لحمايتها، أي قطر، من أي هجوم سعودي إماراتي، توارد الأنباء عن إرسال البلدين (السعودية والإمارات) قوات وخبراء عسكريين إلى المنطقة، بطلب أمريكي، وتسليح عشائر عربية سنية ودعمها ماليا، تمهيدا لإقامة “مشيخة” أو “إمارة” سنية تشكل تهديدا للأمن القومي التركي، وكان تامر السبهان، وزير الدولة السعودي زار شرق الفرات قبل ثمانية أشهر، والتقى قيادات قوات سورية الديمقراطية الكردية، وقائد القوات الأمريكية في المنطقة، مثلما التقى شيوخ العشائر العربية، وسط أنباء عن خطة سعودية لدعم الأكراد و”دولتهم” المنتظرة، وإقامة الإمارة “الشمرية”، شرق دير الزور.
ما يؤكد جدية التهديدات التركية بالهجوم العسكري ثلاثة تطورات رئيسية:
ـ الأول: الدعوة التي وجهتها أحزاب سياسية كردية إلى الحكومة السورية للوقوف صفا واحدا للتصدي للاعتداءات والتهديدات التركية باعتبارها انتهاكا للقوانين والمواثيق الدولية، وتهدف إلى عرقلة الحل السياسي في سورية ومساندة الفصائل الإرهابية.
ـ الثاني: توجيه الولايات المتحدة تهديدا شديد اللهجة إلى فصائل المعارضة السورية المسلحة الخاضعة للائتلاف الوطني والجيش الحر وغيرها، بأنها ستواجه القوات الأمريكية مباشرة في حال مشاركتها في أي عملية عسكرية تركية شرق الفرات، واختتام هذا التهديد بالقول “حين ترقص الفيلة عليك أن تبقى بعيدا عن الساحة”.
ـ الثالث: صمت القيادات السورية والروسية والإيرانية تجاه هذا الخلاف التركي الأمريكي الذي يزداد سخونة، فهل يمكن تفسير هذا الصمت على أنه دعم للهجوم التركي ومباركة له بحكم العلاقات الجيدة بين روسيا وإيران من ناحية وتركيا من ناحية أخرى، أم أنه صمت يتسم بالدهاء، وينتظر حدوث التصادم بين الحليفين السابقين اللذين قادا التدخل العسكري في سورية طوال السنوات السبع الماضية، ودعما وسلحا المعارضة السورية، تطبيقا للنظرية التي تقول “فخار يكسر بعضه”؟.
لا نعرف ما إذا كانت هذه التهديدات التركية جدية، أم أنها تهدف إلى فتح حوار مع واشنطن للوصول إلى حلول وسط مثلما حدث في تهديدات مماثلة في منبج وعفرين؟ وإذا كانت جدية فعلا فهل تأتي بالتنسيق مع الروس؟ وتقديم مبادرات لكسب دمشق أو تحييدها إذا تعذر ذلك؟.
شمال شرق الفرات هو جبهة الصراع التي ربما تكون الأسخن في المستقبل المنظور لوجود العديد من القوى الإقليمية والدولية والمحلية التي تتصارع للسيطرة على هذه المنطقة التي تحتوي على أكثر من 70 بالمئة من احتياطات الغاز والنفط السوري، وأراض زراعية خصبة تنتج معظم الاحتياجات السورية من الحبوب إلى جانب نوعية جيدة من القطن.
المهم أنه أيا كانت نتيجة هذا الصراع، فإنه يصب في نهاية المطاف في مصلحة الدولة السورية، التي تفضل حتى الآن المراقبة عن بعد، وترفض أن تنجر إلى حلبة الصراع، وهذا منتهى الحكمة والتعقل في رأينا.. والله أعلم.
عبد الباري عطوان / رأي اليوم