يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ/ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾؟
ورد في العديد من الروايات الواردة من طرقنا وطرق العامة أنَّ المضروب مثلاً في الآيتين الشريفتين هو رجل يُقال له "بلعم بن باعورا" وهو رجل قيل أنه من بني إسرائيل وورد أنه كان في زمان نبي الله موسى (ع) وكان قد أُوتي علماً ومعرفة بآيات الله وحججه وبراهينه، بل ورد أنَّه كان قد أُوتي شيئاً من الاسم الأعظم فكان يدعو به فيُستجاب له إلا أنَّه انحرف رغم علمه عن خطِّ الله تعالى وجحد بآياته فمثله كمثل الكلب، فكما أن الكلب يظلُّ يلهث حتى وإن لم يكن مجهوداً ومطارداً فكذلك هو شأن العالم الجاحد المنحرف عن خط الله تعالى فهو حين جهله جاحد وهو رغم منحه العلم جاحد بآيات الله تعالى.
فبلعم بن باعورا إنَّما ضُرب مثلاً لكلَّ من كان عالماً إلا أنَّه لم ينتفع بعلمه في الثبات على الهدى والرشاد في معتقده وسلوكه.
لذلك ورد عن الإمام الباقر (ع): مشيراً إلى آية ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا.. ﴾ أنَّ الأصل في ذلك بلعم ثم ضربه الله مثلاً لكلَّ مؤثرٍ هواه على هدى الله من أهل القبلة" (يعني كل من يرجح هواه على هدى الله).
جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: أنه أعطي بلعم بن باعوراء الاسم الأعظم وكان يدعو به فيستجاب له فمال إلى فرعون فلما مر فرعون في طلب موسى عليه السلام وأصحابه قال فرعون لبلعم ادع الله على موسى وأصحابه ليحبسه علينا فركب حمارته ليمر في طلب موسى عليه السلام فامتنعت عليه حمارته فأقبل يضربها فأنطقها الله عز وجل فقالت ويل لك على ما تضربني أ تريد أن أجيء معك لتدعو على نبي الله وقوم مؤمنين فلم يزل يضربها حتى قتله وانسلخ الاسم الأعظم من لسانه وهو قوله ﴿فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِه ولكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ واتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ وتَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}.
و جاء في التفسير الأمثل فيما يخص الآيات التي تتعلق بـ"بلعم بن باعوراء":
إن الآيات السالفة لم تذكر اسم أحد بعينه، بل تحدثت عن عالم كان يسير في طريق الحق ابتداء وبشكل لا يفكر معه أحد بأنه سينحرف يوما، إلا أنه نتيجة لإتباعه لهوى النفس وبهارج الدنيا انتهى إلى السقوط في جماعة الضالين وأتباع الشياطين.
غير أننا نستفيد من أغلب الروايات وأحاديث المفسرين أن هذا الشخص يسمى (بلعم بن باعوراء) الذي عاصر النبي موسى (عليه السلام) وكان من مشاهير علماء بني إسرائيل، حتى أن موسى (عليه السلام) كان يعول عليه على أنه داعية مقتدر، وبلغ أمره أن دعاءه كان مستجابا لدى الباري جل وعلا، لكنه مال نحو فرعون وإغراءاته فانحرف عن الصواب، وفقد مناصبه المعنوية تلك حتى صار بعدئذ في جبهة
أعداء موسى (عليه السلام) .
في التوراة الحالية نجد ورود قضية " بلعم بن باعوراء " أيضا، إلا أن التوراة تبرئه في النهاية من الانحراف، يراجع بذلك سفر الأعداد الباب 22.
ولكن بما أن أشخاصا على غرار " بلعم " كانوا موجودين في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ك (أبي عامر) و (أمية بن الصلت) فإن الآيات محل البحث تنطبق على هذه الموارد في كل عصر وزمان، وإلا فإن مورد القصة هو " بلعم بن باعوراء " لاغير.
وقد نقل تفسير (المنار) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل كأمية بن أبي الصلت في هذه الأمة.
وورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: " الأصل من ذلك بلعم، ثم ضربه الله مثلا لكل مؤثر هواه على هوى الله من أهل القبلة ".
و قال آخرون إن موسى عاش حتى خرج من التيه وسار إلى مدينة الجبارين وعلى مقدمته يوشع بن نون وكالب بن يوحن وهو صهره على أخته مريم بنت عمران.
فلما بلغوها اجتمع الجبارون إلى بلعم بن باعوراء وهو من ولد لوط عليه السلام فقالوا له إن موسى عليه السلام جاء ليقتلن ويخرجنا من ديارنا فادع الله عليهم وكان بلعم يعرف اسم الله الأعظم فقال لهم كيف أدعو على نبي الله والمؤمنين ومعهم الملائكة فراجعوه في ذلك وهو يمتنع عليهم.
فأتوا امرأته وأهدوا لها هدية وطلبوا إليها أن تحسن لزوجها أن يدعو على بني إسرائيل فقالت له في ذلك فامتنع فلم تزل به حتى قال أستخير ربي فاستخار الله تعالى فنهاه في المنام فأخبرها بذلك فقالت راجع ربك فعاد الاستخارة فلم يرد جواب فقالت لو أراد ربك لنهاك ولم تزل تخدعه حتى أجابهم.
فركب حمارا له متوجها إلى جبل يشرف على بني إسرائيل ليقف عليه ويدعو عليهم فما مشى عليه إلا قليلا حتى ربض الحمار فضربه حتى قام فركبه فسار قليلا فربض ففعل ذلك ثلاث مرات.
فلما اشتد ضربه في الثالثة فأنطقها الله ويحك يا بلعم أين تذهب أ ما ترى الملائكة تردني فلم يرجع فأطلق الله الحمار حينئذ فسار حتى أشرف على بني إسرائيل فكان كلما أراد أن يدعو عليهم ينصرف لسانه إلى الدعاء لهم وإذا أراد أن يدعو لقومه انقلب دعاؤه عليهم.
فقالوا له في ذلك فقال هذا شيء غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال الآن خسرت الدنيا والآخرة.
و أما من زعم أن موسى عليه السلام كان توفي قبل ذلك فقال إن الله تعالى أمر يوشع بالمسير إلى مدينة الجبارين فسار ببني إسرائيل ففارقه رجل منهم يقال له بلعم بن باعوراء وكان يعرف الاسم الأعظم وساق من حديثه نحو ما تقدم.
ومن هذا يتبين أن الخطر الأكيد الذي يهدد المجتمعات الإنسانية هو خطر المثقفين والعلماء الذين يسخرون معارفهم للفراعنة والجبارين لأجل أهوائهم وميولهم الدنيوية (والإخلاد إلى الأرض) ويضعون كل طاقاتهم الفكرية في سبيل الطاغوت الذي يعمل ما في وسعه لاستغلال مثل هذه الشخصيات لإغفال وإضلال عامة الناس.
ويجب على المؤمنين معرفة مثل هؤلاء الأشخاص والحذر منهم واجتنابهم.
المصدر:مواقع مختلفة بتصرف