بدأت المشاهد الافتتاحية لهذه العداوة العائلية في يناير/ كانون الثاني 2015 داخل جناح مستشفى كبار الشخصيات في الرياض، بينما كان الملك عبد الله على فراش الموت. ووفقاً لسعودي كان في المستشفى آنذاك، فإنّ أبناء عبد الله وحاشيته أجّلوا لفترة وجيزة إبلاغ خليفته الملك سلمان بأنّ المنية قد وافت الملك – ربما كانوا يأملون في إحكام السيطرة على أموال البلاط الملكي والحفاظ على المناصب القوية لأفراد العائلة من فرع الملك عبد الله.
وصف لي هذه الدراما الواقعية سعوديون بارزون وخبراء أميركيون وأوروبيون في سلسلة من المقابلات التي أُجرِيَت في الولايات المتحدة والخارج خلال الأسابيع التي تلت وفاة خاشقجي. كان لدى هذه المصادر معرفة مباشرة بالأحداث، ولكنهم طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم لأن القضية تتعلق بمسائل دولية حساسة. تم التأكد من صحة هذه المعلومات عن طريق مصادر أميركية مطّلعة.
إليكم الخلاصة التي توصل لها الخبراء الأميركيون والسعوديون الذين راجعوا النتائج الاستخباراتية: قُتِلَ خاشقجي على يد فريق أرسله البلاط الملكي في الرياض كان جزءاً من قوة العمل السريع التي نُظِّمَت قبل هذه العملية بـ18 شهراً. مقالات خاشقجي الاستفزازية وعلاقاته بقطر وتركيا جعلت ولي العهد الذي يستبد بشكل متزايد يشعر بالإهانة، وأصدر أمراً «بإعادته» في يوليو/ تموز 2018، وهو أمر لم تُدرِك الاستخبارات الأميركية معناه إلا بعد ثلاثة أشهر عندما اختفى خاشقجي في إسطنبول.
راقبت الولايات المتحدة هذه الحرب الطاحنة عن كثب. أصبح صهر الرئيس ترامب ومستشاره جاريد كوشنر مستشاراً مقرباً من ابن سلمان. زار كوشنر ابن سلمان في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2017 خلال رحلة خاصة. لم يكشف أي من الطرفين عن تفاصيل محادثاتهما، ولكن من الوارد أنّهما ناقشا مكائد العائلة المالكة. بعد مرور أسبوع على زيارة كوشنر، دبّر ابن سلمان ما يرقى إلى انقلاب داخلي يوم الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني واعتقل أكثر من 200 شخص بين أمراء سعوديين ورجال أعمال واحتجزهم في فندق ريتز كارلتون في الرياض. خَطَّطَ أقرب المقربين من ابن سلمان في البلاط الملكي بعناية لهذه الاعتقالات.
تَصَدَّر الابن الطموح للملك الراحل الأمير تركي بن عبد الله قائمة أعداء ابن سلمان في انقلاب ريتز كارلتون، وكان قد أعرب في وقت سابق إلى معارفه الأميركيين والصينيين عن مخاوفه من القرارات المتهورة التي اتخذها ابن سلمان. لا يزال تركي رهن الاحتجاز وتوفي كبير مساعديه العسكريين اللواء علي القحطاني بسبب احتجازه في الفندق في العام الماضي.
صراع على الخلافة
بدأت دسيسة القصر في مطلع يناير/ كانون الثاني 2015 عندما تدهورت الحالة الصحية للملك عبد الله حيث قالت تقارير إخبارية إنّ الأطباء شخّصوه بمرض سرطان الرئة في العام السابق. هرعت به طائرة هليكوبتر من معسكره الصحراوي في روضة خريم إلى جناح كبار الشخصيات في مستشفى الحرس الوطني في الرياض محاطاً بأبنائه ومساعديه في القصر. عندما دخل الملك في غيبوبة حاول الديوان الملكي أن يُبقي مرضه القاتل سراً بينما كان يتكهن حول مآلات الخلافة، بما في ذلك احتمالية أن يصبح ابن الملك ورئيس الحرس الوطني متعب ملكاً.
عندما وصل ولي العهد آنذاك الأمير سلمان إلى المستشفى في 23 يناير/ كانون الثاني وطالب: «أين أخي؟»، أخبره رئيس الديوان الملكي وحامي أموال العائلة خالد التويجري أنّ عبد الله «يستريح». الواقع أنّ عبد الله كان قد توفي بالفعل وفقاً لسعودي كان حاضراً في المستشفى حينئذ وطلب عدم ذكر اسمه. غضب سلمان عندما علم بالحقيقة، وترددت أصداء ضربات قوية في ممر المستشفى عندما صفع الملك الجديد رئيس الديوان الملكي المخلوع. اعتُقِلَ التويجري ونُقِلَ إلى فندق ريتز كارلتون في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وهو الآن تحت رهن ما يوصف بالإقامة الجبرية بعد سداد الجزء الأكبر من الأموال التي اختلسها في عهد الملك عبد الله، بحسب ما ذكرت المصادر السعودية.
كان أفراد العائلة المالكة يتجسسون على بعضهم البعض عندما بدأ الصراع على الخلافة يلوح في الأفق. وصف أحد أبناء الملك عبد الله عملية التنصت على هواتف العديد من كبار الأمراء. كما اشترى معسكر عبد الله جهازاً صيني الصنع يمكنه الكشف سرياً عن رموز الدخول للهواتف الواقعة في نطاق 100 ياردة من دون الحاجة للوصول إلى الهواتف مباشرة. كانت أجهزة المراقبة مخبأة في منافض السجائر وغيرها من القطع المتناثرة حول القصور في الرياض من أجل التقاط المؤامرات السياسية والإشاعات.
أحد أعضاء الحاشية الذين ساعدوا الملك سلمان وابنه محمد على تعزيز سلطتهم خلال تلك الأشهر الأولى كان سعود القحطاني، محام وعضو سابق في القوات الجوية يميل للقرصنة الإلكترونية ووسائل الإعلام الاجتماعي. كان معسكر سلمان يشك في ولاء القحطاني في أول الأمر لأنه كان أحد مساعدي التويجري في البلاط الملكي منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي. وقد تعرّض القحطاني للاستجواب والضرب في الأيام الأولى بعد تولّي سلمان مقاليد الحكم، بحسب قول شخص من داخل القصر. لكنه سرعان ما أثبت ولاءه لابن سلمان بقوة. بصفته مديراً لمركز الدراسات والشؤون الإعلامية في البلاط الملكي، كان القحطاني يثير هواجس ابن سلمان الدائرة حول منافسين محتملين ومخططين لانقلاب متوقع. بدأ القحطاني بجمع أسلحة إلكترونية لاستخدامها بالنيابة عن ابن سلمان. في يونيو/ حزيران 2015، اتصل القحطاني بمجموعة إيطالية غامضة تُعرَف باسم «فريق القرصنة» للحصول على أدوات إنترنت سرية. في 29 يونيو/ حزيران 2015، راسل القحطاني زعيم فريق القرصنة قائلاً: «إنّ الديوان الملكي السعودي (مكتب الملك) يود أن يكون في تعاون مثمر معكم وأن يطور شراكة طويلة واستراتيجية».
خلص المحققون السعوديون والأميركيون إلى أنّ القحطاني، بصفته قائد العمليات المتعلقة بالمعلومات، ساعد في تنظيم جريمة قتل خاشقجي.
بدأ فريق الملك سلمان بلعب السياسة العائلية الصارمة منذ الأسبوع الأول لتوليه السلطة. في أواخر يناير/ كانون الثاني، عزل مرسوم ملكي اثنين من أبناء عبد الله، تركي ومشعل، من منصبيهما كحاكمَين لإمارتَيّ الرياض ومكة على التوالي. تركت الإطاحة بهما جروحاً لم تلتئم. نُصِّبَ محمد بن سلمان ذو التاسعة والعشرين آنذاك وزيراً للدفاع، وعُيِّنَ الابن المرن لوزير الداخلية السابق، والشخص القوي والمفضل لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية محمد بن نايف نائباً لولي العهد الأمير مقرن، ورئيساً سابقاً متواضعاً للاستخبارات السعودية.
أحكم سلمان وابنه محمد سيطرتهما في أبريل/ نيسان 2015. أُطِيحَ بمقرن كولي للعهد ليحل محله محمد بن نايف (قدم الملك يختاً فاخراً اسمه «سولاندج» يبلغ طوله 280 قدماً كهدية وداع لمقرن بعد عام من عزله، بالإضافة إلى منحه امتيازات أخرى، وفقاً لسعودي كان على اطلاع بهذه المعاملات)، وأصبح ابن سلمان نائباً لرئيس مجلس الوزراء وانضم رسمياً إلى تسلسل الخلافة.
على رغم أنّ ابن سلمان لم يكن يبلغ سن الثلاثين حتى ذلك الحين، إلّا أنّه كان أميراً ماكراً بالفعل، وقد شجّعه نائب ولي عهد الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد وكبير مسؤولي الاستخبارات الإماراتية الشيخ طحنون الذي زار يخت ابن سلمان مراراً وتكراراً في عطلة نهاية الأسبوع خلال السنة الأولى تلك. كان ابن سلمان قد اكتسب سمعةً في الرياض كشخص سريع الغضب، حيث قام في صغره بترهيب مسؤول تسجيل الأراضي الذي كان يعيق نقل الملكية التي كان يريدها الأمير الشاب بإرسال رصاصة له كرسالة تحذير.
كان يفترض أن ينتبه المراقبون إلى علامتي تحذير في سبتمبر/ أيلول 2015 كشفتا أنّ ابن سلمان «كان أميراً سعودياً يمكنه إعادة إنعاش المملكة – أو إسقاطها في الهاوية»، كما جاء في أحد العناوين الرئيسية لإحدى مقالاتي المنشورة عام 2016. سافر السفير الأميركي السابق لدى الرياض جوزيف ويستفال إلى جدة في ذلك الشهر، حيث خطط لمقابلة محمد بن نايف، ولكن أُعيدَ توجيهه في المطار وأُرسِل لمقابلة ابن سلمان بدلاً من ذلك – كان ذلك بمثابة تلميح بشأن هوية من يدير الأمور حقاً. في الشهر ذاته، زار مسؤول استخبارات سعودي مكث في منصبه لفترة طويلة يدعى سعد الجبري مدير «سي آي أيه» آنذاك جون برينان في واشنطن خلال زيارة شخصية للبلاد. الجبري، مستشار مقرب لمحمد بن نايف، لم يخبر سلمان عن تلك الرحلة. فُصِلَ الجبري من عمله فور عودته للبلاد، والآن يعيش في المنفى.
لم تكن تلك الاجتماعات مؤامرة سرية كما تصورها ابن سلمان. على مدى عدة أيام في مايو/ أيار 2016، التقى الأمير تركي بن عبد الله وأقرب مستشاريه رجل الأعمال السعودي طارق عبيد بمجموعة من مسؤولي «سي آي أيه» ووزارة الخارجية السابقين في جناح في فندق «فورسيزونز» في حي جورجتاون. رافقهم المستشار العسكري وحامي تركي وأبناء الملك الراحل عبد الله اللواء علي القحطاني، الرجل الذي سينتهي به الحال ميتاً في نهاية المطاف بعد عام من الزيارة واحتجازه في فندق ريتز كارلتون في الرياض.
وصف عبيد خلال مقابلة أُجرِيَت معه معارف تركي أيام شهر مايو/ أيار 2016 في واشنطن على هذا النحو: «كان الهدف من جولة الاجتماعات هو الحصول على تقييم استراتيجي حول وجهات النظر الأميركية تجاه المملكة ومكانتها من خلال مسؤولي الدفاع والأمن القومي الأميركيين المطّلعين».
جاء ابن سلمان إلى واشنطن الشهر التالي في يونيو/ حزيران 2016 للاجتماع بالرئيس باراك أوباما ومسؤولين آخرين. حتى ذلك الحين، كانت الإدارة محايدة بشكل مدروس وسط التوتر المتصاعد في أوساط العائلة المالكة، على رغم ما كان يبدو كمسار تصادمي بين ولي العهد ونائبه. لكن أوباما أُعجِبَ بالرسالة والطاقة التي جلبها ابن سلمان إلى أجندته الإصلاحية. وبعد زيارة يونيو/ حزيران، كانت الولايات المتحدة تميل نحو المصلح العصبي الشاب.
(...)
ابتداءً من ربيع عام 2017، أنشأ السعوديون برنامجاً سرياً لخطف المنشقّين واحتجازهم في مواقع سرية، وفقاً لخبراء أميركيين وسعوديين مطّلعين. اشتمل البرنامج على «فريق نمور» خاص يعمل بالتنسيق مع مركز الدراسات والشؤون الإعلامية في البلاط الملكي برئاسة القحطاني. ساعد مستشار آخر لابن سلمان يُدعى تركي الشيخ في الإشراف على مواقع الاستجواب، وفقاً للخبراء الأميركيين والسعوديين.
وقد اكتسب الانقلاب الداخلي الذي دبّره ابن سلمان زخماً خلال العام الماضي، حيث بدأ يخشى ولي العهد على حياته. في يونيو/ حزيران 2017، خُلِعَ محمد بن نايف من منصبه كولي للعهد بطريقة مُذِلَّة واستُبدِلَ بابن سلمان. في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، بعد أسبوع من زيارة كوشنر، اعتقل ابن سلمان أعداءه الملكيين بدءاً بتركي بن عبد الله واحتجزهم في فندق ريتز كارلتون.
تم اعتقال عدة ناشطات سعوديات في مجال حقوق المرأة في مايو/ أيار 2018، أي قبل شهر واحد فقط من إلغاء ابن سلمان الحظر المفروض على قيادة النساء للسيارة. يقول منتقدو ابن سلمان إنّ ولي العهد لم يرغب في أن تحصل الناشطات على فضل إصلاحاته. كانت إحدى الناشطات مصدومة للغاية إزاء معاملتها القاسية لدرجة أنّها حاولت الانتحار، وفقاً لأحد الناشطين في مجال حقوق الإنسان، الذي نقل أنّها حاولت شق معصمَيها بشفرة حلاقة.
جنون ارتياب وحشيّ
المزعج حول قصة التنافس العائلي هذه هو أنّها ساعدت في إثارة جنون الارتياب الذي أدى إلى وفاة خاشقجي. ويبدو أن العملية نظمت من قبل خلية خاصة داخل البلاط الملكي حيث كان القحطاني مشرفاً رئيسياً وليس من قبل الاستخبارات. وهذا يُطَمئِن المسؤولين الأميركيين الذين ينظرون للحميدان وزميله رئيس جهاز الأمن الداخلي (المباحث) عبد العزيز الهويريني كقوتَين محتملتَين تدفعان للاستقرار.
أوقف المدعي العام 18 سعودياً تحت ذمة هذه القضية، من بينهم ضابط استخبارات سابق وأحياناً حارس شخصي لابن سلمان يُدعى ماهر مطرب اتهمه المسؤولون السعوديون بأنّه قائد الفريق الذي قتل خاشقجي. وقد طُرِدَ كل من القحطاني والعسيري من منصبَيهما، وكان القحطاني من بين 17 سعودياً فرضت عليهم وزارة المالية الأميركية عقوبات بسبب أدوارهم المزعومة في وفاة الكاتب.
تحكم عائلة آل سعود بيدٍ دموية أحياناً. باعتبارها حليف المملكة الرئيسي، فعلى الولايات المتحدة الالتزام بتهدئة هذا الخلاف العائلي قبل أنّ يُلحِق ضرراً أكبر بالسعودية والعالم.
(ديفيد أغناتيوس/ «واشنطن بوست»)