السيد عباس نور الدين
عن سدير الصيرفي قال: دخلت أنا والمفضل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب، على مولانا أبي عبد الله جعفر ابن محمد عليه السلام فرأيناه جالسًا على التراب وعليه مِسْح(كساء) خيبري مُطوّق بلا جَيْب، مُقَصّر الكُمّين وهو يبكي بكاء الوالِه الثّكلى، ذات الكبد الحرّى، قد نال الحزن من وجنتيه، وشاع التغيّر في عارضَيْه، وأبلى الدموع مَحْجَريه، وهو يقول:
سيدي! غيبتك نفت رُقادي، وضيّقت عليّ مِهادي، وأسَرَت منّي راحة فؤادي!
سيدي! غيبتك أوصلت مُصابي بفجائع الأبد، وفَقْد الواحد بعد الواحد يُفني الجمع والعدد، فما أُحسّ بدمعة ترقى من عيني، وأنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا (مواضيها)وسوالف البلايا إلا مُثّلَ لعيني عن عوائر (مصائب)أعظمها وأفظعها، وتراقي أشدّها وأنكرها، ونوائب مخلوطة بغضبك، ونوازل معجونة بسخطك!
قال سدير: فاستطارت عقولنا ولهًا، وتصدّعت قلوبنا جزعًا، عن ذلك الخطب الهائل والحادث الغائل(المهلك)، وظنّنا أنّه سِمة لمكروهة قارعة أو حلّت به من الدهر بائقة!
فقلنا: لا أبكى الله يا ابن خير الورى عينيك من أيّ حادثةٍ تستنزف دمعتك، وتستمطر عبرتك، وأيّة حالة حتمت عليك هذا المأتم؟
قال: فزفر الصادق (عليه السلام) زفرة انتفخ منها جوفه، واشتدّ منها خوفه، وقال:
ويكم! إنّي نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة الذي خصّ الله تقدّس اسمه به محمّدًا والأئمّة من بعده عليه وعليهم السلام، وتأمّلت فيه مولد قائمنا وغيبته وإبطاؤه وطول عمره وبلوى المؤمنين به من بعده في ذلك الزمان وتولّد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته، وارتداد أكثرهم عن دينهم، وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم، التي قال الله تقدس ذكره: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} يعني الولاية، فأخذتني الرقّة، واستولت عليّ الأحزان.
فقلنا: يا ابن رسول الله! كَرّمنا وشَرّفنا بإشراكك إيانا في بعض ما أنت تعلمه من علم.
قال: إنّ الله تبارك وتعالى أدار في القائم منّا ثلاثة، أدارها في ثلاثة من الرسل. قدّر مولده تقدير مولد موسى (ع)، وقدّر غيبته تقدير غيبة عيسى (ع)، وقدّر إبطاءه تقدير إبطاء نوح (ع)، وجعل من بعد ذلك عمر العبد الصالح أعني الخضر دليلًا على عمره.
فقلت: اكشف لنا يا ابن رسول الله عن وجوه هذه المعاني.
قال: أمّا مولد موسى فإنّ فرعون لمّا وقف على أنّ زوال ملكه على يده، أمر بإحضار الكهنة فدلّوه على نسبه وأنّه يكون من بني إسرائيل، ولم يزل يأمر أصحابه بشقّ بطون الحوامل من نساء بني إسرائيل حتى قتل في طلبه نيّفًا وعشرين ألف مولود، وتعذّر عليه الوصول إلى قتل موسى لحفظ الله تبارك وتعالى إياه.
كذلك بنو أمية وبنو العباس لمّا وقفوا على أنّ زوال ملكهم والأمراء والجبابرة منهم على يد القائم منّا، ناصبونا العداوة، ووضعوا سيوفهم في قتل آل بيت رسول الله (ص) وإبادة نسله طمعًا منهم في الوصول إلى قتل القائم (ع)، ويأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلى أن يتم نوره ولو كره المشركون.
وأمّا غيبة عيسى (ع) فإنّ اليهود والنصارى اتّفقت على أنّه قُتل، وكذّبهم الله عزّ وجل بقوله: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم}.
كذلك غيبة القائم (ع) فإنّ الأمّة تنكرها لطولها، فمن قائلٍ بغير هدى بأنّه لم يولد، وقائلٍ يقول: إنّه وُلد ومات، وقائلٍ يكفر بقوله إنّ حاديَ عشرنا كان عقيمًا، وقائلٍ يمرق بقوله إنّه يتعدّى إلى ثالث عشر فصاعدًا، وقائلٍ يعصي الله عزّ وجل بقوله: إنّ روح القائم (ع) ينطق في هيكل غيره.
وأمّا إبطاء نوح (ع)، فإنّه لما استنزل العقوبة على قومه من السماء بعث الله عزّ وجل جبرئيل الروح الأمين بسبعة نويات فقال: يا نبيّ الله إنّ الله تبارك وتعالى يقول لك: إنّ هؤلاء خلائقي وعبادي ولست أبيدهم بصاعقة من صواعقي، إلّا بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجّة، فعاود اجتهادك في الدّعوة لقومك، فإنّي مثيبك عليه، واغرس هذه النّوى فإنّ لك في نباتها وبلوغها وإدراكها إذا أثمرت الفرج والخلاص، فبشّر بذلك من تبعك من المؤمنين.
فلما نبتت الأشجار وتأزّرت وتسوّقت وتغصّنت وأثمرت وزها الثمر عليها بعد زمنٍ طويل، استنجز من الله سبحانه وتعالى العدّة، فأمره الله تبارك وتعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار ويعاود الصبر والاجتهاد، ويؤكّد الحجّة على قومه؛ فأخبر بذلك الطوائف التي آمنت به فارتدّ منهم ثلاث مائة رجل وقالوا: لو كان ما يدّعيه نوح حقًّا لما وقع في وعد ربّه خُلف.
ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل يأمره عند كلّ مرة أن يغرسها تارةً بعد أخرى، إلى أن غرسها سبع مرّات، فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتد منهم طائفة إلى أن عاد إلى نيّف وسبعين رجلًا، فأوحى الله عزّ وجل عند ذلك إليه وقال:
يا نوح! الآن أسفر الصبح عن الليل لعينك حين صرّح الحقّ عن محضه وصفا الأمر للإيمان من الكدر بارتداد كل من كانت طينته خبيثة.
فلو أنّي أهلكتُ الكفّار وأبقيتُ من قد ارتدّ من الطوائف، التي كانت آمنت بك، لما كنت صدَقت وعدي السابق للمؤمنين، الذين أخلصوا التوحيد من قومك، واعتصموا بحبل نبوّتك بأن أستخلفهم في الأرض وأمكّن لهم دينهم وأبدّل خوفهم بالأمن لكي تخلص العبادة لي بذهاب الشك من قلوبهم.
وكيف يكون الاستخلاف والتمكين وبدل الخوف بالأمن منّي لهم مع ما كنت أعلم من ضعف يقين الذين ارتدّوا وخُبْث طينتهم، وسوء سرائرهم التي كانت نتائج النفاق وسنوح الضلالة، فلو أنّهم تسنّموا مني من الملك الذي أوتي المؤمنين وقت الاستخلاف إذا أهلكت أعداءهم لنشقوا روائح صفاته، ولاستحكمت سرائر نفاقهم، وتأبّد حبال ضلالة قلوبهم، وكاشفوا إخوانهم بالعداوة وحاربوهم على طلب الرئاسة والتفرّد بالأمر والنهي وكيف يكون التمكين في الدين وانتشار الأمر في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب كلّا ف{اصنع الفلك بأعيننا ووحينا}.
قال الصادق (ع): وكذلك القائم (ع) تمتدّ أيّام غيبته ليصرّح الحقّ عن محضه، ويصفوَ الإيمان من الكدر، بارتداد كل من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يخشى عليهم النفاق إذا أحسّوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم (ع).
قال المفضَّل: فقلت: يا ابن رسول الله إنّ النواصب تزعم أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ قال: لا يهدِ الله قلوب الناصبة متى كان الدين الذي ارتضاه الله ورسوله متمكّنًا بانتشار الأمن في الأمّة وذهاب الخوف من قلوبها وارتفاع الشك من صدورها في عهد أحد من هؤلاء وفي عهد عليّ (ع)، مع ارتداد المسلمين والفتن التي كانت تثور في أيامهم والحروب التي كانت تنشب بين الكفار وبينهم، ثمّ تلا الصادق (ع):{حتى إذا استيأس الرسل وظنّوا أنّهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا}.
وأمّا العبد الصالح الخضر (ع) فإنّ الله تبارك وتعالى ما طول عمره لنبوّة قدّرها له، ولا لكتاب ينزله عليه، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبلها من الأنبياء، ولا لإمامة يُلزم عباده الاقتداء بها، ولا لطاعة يفرضها له، بلى إنّ الله تبارك وتعالى لما كان في سابق علمه أن يُقدّر من عمر القائم (ع) في أيام غيبته ما يُقدّر وعلم ما يكون من إنكار عباده بمقدار ذلك العمر في الطول، طوّل عمر العبد الصالح من غير سبب أوجب ذلك إلّا لعلّة الاستدلال به على عمر القائم (ع)، وليقطع بذلك حجة المعاندين لئلا يكون للناس على الله حجة.( العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج51، ص 219).
المصدر:مركز باء للدراسات