عُرفت سفّانة بأنّها من ذوات الفصاحة والبلاغة والجود والكرم، وكانت ذات عقلٍ ووَقار، وقد وهبها أبوها كثيراً من الإبل، وقال لها يوماً: يا ابنتي، لا يصحّ أن يجتمع كريمان على مالٍ واحد فينتهي ما عندهما من المال، فالأفضل أن ترفعي يدكِ عن الكرم وأبقى أنا على حالي، أو أرفع يدي وتبقين أنت، فقالت: لا أرفع لي يداً أبداً.
وتمرّ الأيّام، ويكون للمسلمين غزوةٍ على قبيلة طيء، ويقضي القدر الإلهي أن تكون سفّانة أسيرةً مع السبايا، إلاّ أنّ الإمام عليّاً عليه السلام ـ وهو العارف ـ عطف عليها وأشار إليها أن تكلّم رسول الله صلّى الله عليه وآله، فكلّمته، فعفا عنها وأكرمها إجلالاً لإشارة الإمام عليٍّ عليه السلام.
بماذا كلَّمَتْه ؟
• روى هشام في ( السيرة النبويّة ) فيما حكاه عن ابن إسحاق أنّه قُدِم بابنة حاتم الطائي على رسول الله صلّى الله عليه وآله في سبايا من طيء، فجُعِلت في حظيرةٍ بباب المسجد كانت السبايا توضع فيها، فمرّ بها رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقامت إليه ـ وكانت امرأةً جَزْلَة ـ، فقالت: يا رسول الله، هلَكَ الوالد، وغاب الوافد، فامنُنْ علَيّ مَنّ اللهُ عليك.
قال: ومَن وافدُك ؟
قالت: عَديّ بن حاتِم ( أخوها).
قال: الفارُّ مِن الله ورسوله!
قالت سفّانة راويةً: ثمّ مضى وتركني، حتّى إذا كان من الغد مرّ بي فقلت له مِثل ذلك، وقال لي مِثلَ ما قال بالأمس، حتّى إذا كان بعد الغد مرّ بي وقد يئستُ منه، فأشار إليّ رجل من خلفه ( لم تكن تعرفه، وهو أمير المؤمنين عليه السلام ) أنْ قومي فكلّميه، فقمت إليه وقلت له مثل ذلك، فقال: قد فعلتُ فلا تعجلي حتّى تجدي مِن قومكِ مَن يكون لكِ ثقةً يبلغك إلى بلادك فآذنيني.
وسألتُ عن الرجل الذي أشار إليّ أن أُكلّمه، فقيل: هو عليّ بن أبي طالب. فأقمتُ حتّى قَدِم رهطٌ من طيء، وإنّما أريد أن آتيَ أخي بالشام، فأخبرته أنّ لي في الشام ثقةً وبلاغاً، فكساني وحملني وأعطاني نفقةً، فخرجتُ حتّى قدمتُ الشام على أخي، وكان بدومة الجندل.
• وفي ( السيرة الحلبيّة ) روى الحلبيّ أنّها قالت: يا محمّد، إن رأيتَ أن تُخلّيَ عنّي ولا تُشمتَ بنا أحياء العرب، فإنّي ابنة سيّد قومي، وإنّ أبي كان يحمي الذمار ويفكّ العاني، ويُشبع الجائع ويكسو العاري، ويُقري الضيف ويُطعم الطعام، ويُفشي السلام، ولم يَردَّ طالبَ حاجةٍ قطّ، أنا ابنة حاتم طيء. فقال لها: يا جارية، هذه صفة المؤمن حقّاً، لو كان أبوكِ مسلماً لَترَحّمنا عليه، خلّوا عنها؛ فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق ".
• وفي روايةٍ أخرى: قالت: يا محمّد، إن رأيتَ أن تَمُنْ علَيّ ولا تفضَحَني في قومي؛ فإنّي بنت سيّدهم، إنّ أبي كان يُطعم الطعام، ويَحفَظ الجوار، ويرعى الذِّمار، ويفكّ العاني، ويُشبع الجائع ويكسو العريان، ولم يَردَّ طالبَ حاجةٍ قطّ، أنا ابنة حاتِم الطائي. فقال لها: « هذه مكارم الأخلاق حقّاً، لو كان أبوكِ مسلماً لترحّمتُ عليه، خَلُّوا عنها؛ فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق، وإنّ الله يحبّ مكارم الأخلاق ".
• وفي روايةٍ أخرى، قال صلّى الله عليه وآله: « إرحموا عزيزاً ذَلّ، وغنيّاً افتقر، وعالماً ضاع بين جُهّال »، فأطلقها ومَنّ عليها بقومها، فاستأذَنَته في الدعاء، فأذن لها وقال لأصحابه: « إسمعوا وعُوا ».. فقالت له: شكرَتْك يدٌ افتقَرت بعدَ غِنى، ولا ملكَتْك يدٌ استَغْنَت بعد فقر، واصاب اللهُ بمعروفك مواضعَه، ولا جعل لك إلى لئيمٍ حاجة، ولا سلب نعمةً من كريمٍ إلاّ وجعلك سبباً لردّها.
عودة إلى الأصل
ورد في الآثار أن أهل الخير والمعروف في الجاهليّة هم أهل الخير والمعروف في الإسلام، تقبّلوا الرسول والرسالة لأنّهما وافقا الفطرة الإنسانيّة، ودَعَوا إلى مكارم الأخلاق، وإلى كلِّ حقٍّ وخيرٍ وفضيلةٍ وهداية، فلم يبطؤوا ولم يتردّدوا عن قبول الإسلام ومودّة الرسول وآله، فلا غرابةَ بعد ذلك أن تُسْلم « سفّانة » بل ويحسن إسلامها، ولا تكتفي بذلك.
حينما زحف جيش المسلمين إلى الأرض التي كان يقطنها بنو طيء، خرج عَدِيُّ بن حاتم الطائي إلى الشام تجنّباً من الاصطدام، فلمّا سُبِيَت أخته سفّانة أصبح في حَرَجٍ بالغ وحيرةٍ كبيرة، فما كان أشدَّ فرحَه وفَرَجَه يوم علم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله أطلق أخته سفّانة من الأسر، بل وأكرمها وجهزّها أفضل تجهيز للرحيل، حتّى أنّه صلّى الله عليه وآله أعدّ لها ما يُعينها في سفرها الذي اختارته، وهو إلى الشام.. لماذا؟
لأنّ سفّانة أرادت القدومَ على أخيها عَدِيّ، وكان يومذاك بدومة الجندل في الشام، فأتَتْه.
فماذا كان ؟
قال عَدِيّ: فَوَ اللهِ إنّي لَقاعدٌ في أهلي إذ نظرتُ إلى ضعِينةٍ تَصُوب إليّ تَؤمُّنا، فقلت: إبنةُ حاتم! فإذا هيَ هي، فلمّا وقفَتْ علَيّ انسحَلَت تقول: القاطع الظالم، إحتملتَ بأهلك ووُلدك، وتركتَ بقيّة والدك وعورتك! قلت: أي أُخيّة لا تقولي إلاّ خيراً، فواللهِ ما لي من عذر، لقد صنعتُ ما ذكرتِ. قال: ثمّ نَزَلَت فأقامت عندي، فقلت لها ـ وكانت امرأةً حازمة ـ: ماذا تريدين في أمر هذا الرجل ( أي النبيّ صلّى الله عليه وآله ) ؟ قالت: أرى ـ واللهِ ـ أن تلحق به سريعاً، فإن يكن نبيّاً فللسابقِ إليه فضلُه، وإن يكن مَلِكاً فلن تَذِلَّ في عزّ اليمن، وأنت أنت.
قال: قلت لها: واللهِ إنّ هذا هو الرأي.
فخرجتُ حتّى قدمتُ على رسول الله المدينة فدخلتُ إليه.. ( وذكر قصّة إسلامه على يد النبيّ صلّى الله عليه وآله ).
وحَسُن إسلام عَدِيّ بن حاتم، وذلك بدعوةٍ موفّقةٍ من قِبل أخته سفّانة التي طيّب نفسَها رسولُ الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وعلى آلهما. ثمّ أصبح عَدِيّ من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين عليه، وشهد معه مشاهده كلّها، وقد ترشحت مشاعره عن ديوان صغير جُمِع له فيه النصرة للإسلام والنبوّة والإمامة.
المصادر
1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام 225:4 ـ 228.
2 ـ السيرة النبوية لابن سيّد الناس 295:2 ـ 297.
3 ـ المغازي للواقدي 988:3.
4 ـ ديوان عَدِي بن حاتم، جمع وتحقيق وشرح: قيس العطّار.
5 ـ إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي:134.
6 ـ السيرة النبويّة لابن كثير 124:4.
7 ـ أعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين 287:1 و 414.
8 ـ رياحين الشريعة في ترجمة عالمات نساء الشيعة للشيخ ذبيح الله المحلاّتي 330:4.
المصدر:شبكة الامام الرضا(ع)