بلايا العراق لا تعد ولا تُحصى منذ أن حلّ الطاعون الأميركي في بلاد ما بين الرافدين، وما تلاه من تدمير وسرقة للآثار والمتاحف من قِبل الأميركيين وجيوشهم التكفيرية الجرارة. انصب اهتمام الأميركيين على سرقة الآثار العراقية، في حين ركز الإسرائيليون نشاطهم على نهب كلّ ما له علاقة بالوجود اليهودي في العراق من جهة، واغتيال مئات العلماء العراقيين من جهة أخرى.
على امتداد سنوات الاحتلال، الذي لا يزال مستمراً حتى الآن، نُقلت آلاف القطع الأثرية المنهوبة سواء من المتاحف أو من المواقع الأثرية إلى الولايات المتحدة الأميركية. قسم آخر من الآثار، نُقل إلى الأردن، الذي تحوّل إلى مصدر رئيس للآثار المهربة. ومن الأردن انتقلت العديد من مئات القطع الأثرية إلى دور المزادات في الغرب حيث بيعت من قبل تجار آثار انتقلوا إلى عمان لشراء الكم الهائل مما نهب.
شاركت دوائر رسمية أردنية في السماح بانتقال الآثار العراقية المهربة إلى الأردن، ومن ثم الموافقة على شحنها إلى الخارج، لأهداف مادية بحت. في السابق، لم يكن هناك اهتمام يذكر بالأعمال الفنية العراقية، إذ كانت قطعة أثرية سومرية صغيرة الحجم مثلاً يوازي ثمنها عدة لوحات فنية. لكن الأمر تبدل جذرياً مع ارتفاع وتيرة الاهتمام بالفنون التشكيلية العربية خلال العقد الأخير. ويعود سبب ذلك إلى تخصيص ملايين الدولارات من قبل دول خليجية في طليعتها دولة قطر بهدف جمع الأعمال الفنية العربية بشكل عام، وتشييد متاحف خاصة بها. هكذا كان التنافس على أشده بين من يحاول اقتناء الأعمال الفنية سواء كانت حكومات عربية أو متمولين عرباً. بطبيعة الحال، كانت المدرسة التشكيلية في العراق في طليعة اهتمام المتاحف والأفراد. وانضمت إلى المتاحف العربية، المتاحف الأجنبية، التي أخذت بدورها باقتناء أعمال فنية لأبرز الفنانين العرب وبصورة خاصة الفنانين العراقيين أمثال جواد سليم، ضياء الغزاوي، كاظم حيدر، إسماعيل فتاح، محمود العبيدي وغيرهم. الإقبال على شراء الأعمال الفنية العراقية أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعارها. مثلاً، كانت أعمال جواد سليم، صاحب «نصب الحرية» في وسط بغداد، في طليعة الأعمال التي حققت أسعاراً مرتفعة بلغ في بعضها أكثر من مليون دولار أميركي.
نظراً إلى توفير أموال ضخمة بهدف اقتناء أبرز الأعمال الفنية سواء من لبنان، أو العراق، أو سوريا، أو مصر، كان لا بد من توفير الأعمال في الأسواق. هنا بدأت عمليات نهب الأعمال الفنية العائدة للدولة العراقية التي تم جمعها على امتداد عقود من الزمن. انتقلت معظم أعمال «مركز صدام حسين للفنون» إلى عمان أيضاً وبدأت عملية الانتقال في السنوات الأخيرة من حكم صدام حسين، حيث سبّب الحصار الطويل على العراق في انهيار شبه شامل. ونظمت في بغداد مزادات بإشراف أجهزة المخابرات كانت تباع فيها مقتنيات الأسر العراقية نظراً إلى الحاجة المادية الماسة، ولم يتجاسر أحد على المزايدة في تلك المزادات بسبب سطوة المخابرات، بل كانت الأعمال الفنية تباع بأبخس الأثمان، وتنتقل بسهولة إلى الأردن الذي تحول إلى مركز رئيسي لكل ما نهب من العراق، يقصده التجار الأوروبيون وخبراء دور المزادات الأجنبية.
مع انهيار الدولة العراقية وسيطرة المحتلين الأميركيين، نهب أكبر مركز للفنون التشكيلية في العراق وهو «مركز صدام حسين للفنون»، ونقلت معظم الأعمال إلى الأردن وكانت عملية النهب محمية ومؤمنة بدون أي رادع وطني أو أخلاقي.
وقعت في عمان حادثة تبيّن مدى انحطاط لصوص العراق. إذ ذكر ديبلوماسي عربي في عمان ـــ وهو من أبرز المهتمين باقتناء الأعمال الفنية العراقية ـــ أنه تلقى عرضاً من تاجر عراقي لثلاثة أعمال لشاكر حسن آل سعيد، وعمل لإسماعيل فتاح، والأعمال الأربعة عليها ختم «مركز صدام حسين للفنون». عمد الديبلوماسي إلى شراء الأعمال الأربعة، وأعادها مع رسالة إلى العراق على أمل أن تبقى إرثاً ثقافياً في بغداد. لكن للأسف الشديد بعد شهرين فقط، ظهرت الأعمال الأربعة مجدداً في عمان حيث بيعت إلى زبون جديد. هذه الحادثة، هي جزء بسيط جداً مما تعرضت له الأعمال التشكيلية العراقية، بحيث يمكن القول بسهولة إن معظم أعمال الفنانين العراقيين على امتداد ما يقارب سبعين عاماً قد أصبح خارج العراق.
ظهرت في الأسواق كميات ضخمة من الأعمال المزوّرة لجواد سليم، وشاكر حسن، وضياء العزاوي وغيرهم
لم تقتصر البلوى على نهب الأعمال الفنية، بل بدأت عملية تزوير الأعمال الفنية العراقية من قبل «فنانين» عراقيين. هكذا، ظهرت في الأسواق كميات ضخمة من الأعمال لجواد سليم، وشاكر حسن، وضياء العزاوي وغيرهم. وبدورها، كانت المزادات الأجنبية بداية الأمر تعرض هذه الأعمال «المزورة» للبيع بهدف الربح. لكن نتيجة للضغوط من قبل خبراء وفنانين عراقيين يعيشون في الخارج، على دور المزادات الرئيسية في لندن وباريس ونيويورك، أحجمت تلك الدور عن عرض أعمال مشكوك في صحتها، لكن المزورين حاولوا الالتفاف على الأمر بإرسال أعمالهم المزورة إلى دور مزاد ثانوية في الخارج، أو إلى بعض صالات العرض في بيروت ودبي وعمان.
المؤسف أن لا قوانين تحمي الفنانين وتحافظ على حقوقهم. والأمور سائبة في مجال الثقافة كما في شتى المجالات، والفنانون البارزون هم أكثر عرضة للتزوير من أعمال الفنانين العاديين. وبما أن العراق اليوم يغرق في أزماته وصراعاته، فإن آخر هموم العراقيين الاهتمام بتراثهم الثقافي المنهوب، وجل اهتمامهم العيش بأمان وتأمين لقمة العيش، في بحر من الفساد المتلاطم الذي جرف أعمال ما يقارب القرن من إنجازات المدرسة التشكيلية العراقية إلى المجهول.