الشيخ محمد صنقور
اللهم أخرجنا من ظلمات الوهم، وأكرمنا بنور الفهم، وافتح علينا أبواب رحمتك، وانشر علينا خزائن علومك.
في هذه الايام تصادف ذكرى شهادة الإمام الرضا عليه السلام لذا أعزيكم بشهادة عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، هذه المناسبة الأليمة عند الله، وعند رسوله وعند أولياء الله، والمؤمنين من عباده.
نظرة إجمالية لفتنة الواقفة:
بمناسبو حلول ذكرى شهادة الامام الرضا، أودُّ أن أتحدث معكم حول فتنةٍ وقعت في الوسط الشيعيّ بعد استشهاد الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه أفضل الصلاة والسلام، في بداية تصدِّي الإمام الرضا(ع) للإمامة، هذه الفتنة هي الفتنة التي يُعبَّر عنها بفتنة الواقفية، وهي فتنةٌ تعاظمت في بداية ظهورها، وكادت أن تُحدِث شرخا بيِّناً وكبيراً في النسيج الاجتماعي الشيعي، وأن تُحدِث هزةً في معتقدات أتباع أهل البيت (ع) في مختلف مواطن سكناهم، في العراق، وفي الحجاز، وفي إيران، وفي مصر واليمن، وفي الكثير من الحواضر الاسلامية التي يقطنها الشيعة.
حاصل ما وقع بعد استشهاد الامام الكاظم (ع)، هو أنَّ جماعة ممن كان لهم وزن ثقيل في الوسط الشيعي قد ادَّعوا أنَّ الامام الكاظم(ع) لم يمت، وأنَّه حيٌّ، وسيبقى حيَّاً حتى يخرج ويملأ الأرض -شرقها وغربها- عدلا، ويقضي على الظلم، ويتولَّى شؤون المسلمين، وأنَّ كلّ مَن ادَّعى الإمامة بعد الامام الكاظم فهو كذَّاب وليس مُحقَّاً. هؤلاء كان منهم وكلاء للإمام الكاظم (ع) أو هكذا كانوا يزعمون ، فعليُّ بن أبي حمزة البطائني، وزياد الكندي، وعثمان بن عيسى الرواسي، وآخرون كانت لهم وجاهة في الوسط الشيعي، وكانوا قد صحبوا الكاظم (ع)، وأخذوا عنه العلم، لذلك استحكمت شُبهتهم عند الكثير من عوامِّ الشيعة.
سبب الفتنة:
عندما نبحث عن دوافع هذه الفتنة التي وقعت، فإننا سنجد أنَّ الباعث لظهور هذه الفتنة هو أنَّ هؤلاء الرجال كانوا وكلاء للإمام الكاظم (ع) بحسب زعمهم، وكانت تحت أيديهم أموال طائلة من الحقوق والأخماس والمظالم والزكوات، ولأنّ الإمام الكاظم (ع) كان سجيناً، وقد استمر سجنه لما يقرب أو يزيد على أربع سنوات، فكانت الناس ترجع في الأقطار الإسلامية إلى أمثال هؤلاء، الذين هم وكلاء وفي ذات الوقت كانوا علماء، ومن المعلوم أنَّه عندما يُستشهد الإمام، ويلي الأمر إمامٌ بعده، يكون اللازم عليهم أن يُسلِّموا الأموال إلى الإمام الذي يليه، ولكن عزَّ عليهم أن يدفعوا كلَّ هذه الاموال التي كانت تحت أيديهم، فمثلاً علي بن ابي حمزة البطائني كان تحت يده ما يقارب الثلاثين ألف دينار، وكان تحت يد زياد القندي سبعون ألف دينار (1)، وكان تحت يدي عثمان بن عيسى الرواسي مال كثير وستُّ جواريَ (2)، وآخرون كانت بأيديهم أموال كانت تُجمع للإمام (ع) من شتى الأقطار الاسلامية. يقول الكِشِّي (قده) -وهو أحد علماء الرجال-: (إنَّ مبدأ ظهور الوقف، هو أنَّ حيَّان بن السراج -وكان معه آخر-، كانوا وكلاء للإمام في العراق، وكانت تأتيهم أموال، قرابة الثلاثين ألف دينار، فاشتروا بها الدُّور، وعقدوا العقود، وتزوّجوا بها، ثم لمَّا أن سمعوا بموت الإمام الكاظم (ع) في السجن، أنكروا موته، وقالوا إنَّه لم يمت، فكان ذلك مبدأ ظهور الوقف) (3).
أجمع علماؤنا السابقون منهم واللاحقون على أنَّ المصدر الأساسيّ لظهور هذه الفتنة هم بعض وكلاء الإمام الكاظم (ع)، وقد أثاروا هذه الشبهة من أجل الاستحواذ على الأموال التي كانت بأيديهم -وكانت أموالاً كثيرة-، وتأكَّد أنَّ هذا هو الباعث الأصلي للشبهة التي أثاروها من اقرار بعضهم قبيل موته، فمثلاً: قال ابن السرّاج -قبيل موته- لورثته: "إنَّ تحت يدي أموالاً - قرابة العشرة آلاف دينار- وهي ليست لي، هي حقوق، وأخماس، وزكوات، ومظالم، أُعطيتُها لأني وكيلٌ عن الإمام الماضي -الامام الكاظم (ع)-، فسوَّلتُ لي نفسي، فاستحوذتُ عليها، ولا أُريد أن أُصلى في جهنَّم، فارحموني يرحمكم الله، ادفعوها لأبي الحسن الرِّضا فإنَّه الإمام". هذا الشخص لأنه شعر بقرب الأجل لذلك تحرك ضميره، ولكن مجموعة من أبنائه كانوا فسقة، فلم يُسلِّموا الأموال، إلا أنَّهم اعترفوا أنَّ مُورِّثهم قد قال لهم ذلك، وحيث لم تكن هناك وثيقة تُثبت أنَّ الأموال للإمام الرضا (ع)، فمن السهل عليهم أن يستولوا عليها. هذا واحد من المؤشرات.
وهناك موقف آخر يوثِّقه علماء التأريخ، وعلماء الرجال، يونس بن عبد الرحمن -أحد علماء الطائفة، ومن أكابرهم المعروفين بالورع والتقوى- هذا الرجل عندما أظهر عليُّ بن أبي حمزة البطائني شبهة الوقف، وأنَّ الإمام لم يمت، وعندما أظهر زياد القندي شُبهة الوقف، وادّعى أنَّ الإمام لم يمت، تصدَّى يونس لفضحهم والإنكار عليهم، وأخذ يتحدَّث في الأوساط الشيعية، ويُؤكِّد ويُثبت كذبهم، وأنَّ الإمامة للرضا (ع)، وأنَّ الكاظم (ع) قد مضى إلى ربِّه. لذلك سعوا من أجل استمالته، فقالوا له: يا يونس، ما دفعك إلى ما فعلت؟ نُعطيك عشرة آلاف دينار وتسكت؟!! فغضب فقال: رَوينا أنا وأنتم، روينا عن الصادقين أنهم قالوا: إذا ظهرت البِدَع، فعلى العالم أن يُظهر علمه، فإن لم يفعل سلب نور الإيمان (4). لا أدعُ جهادكم. فأظهَروا العداوةَ له، هذا مؤشِّرٌ آخر، يُعبِّر عن الدافع الحقيقي للشبهة التي أثاروها وروَّجوا لها، وثمة مؤشِّرات أخرى لا يفسح المجال لطرحها هنا.
المصدر:مركز الحوزة للدراسات الإسلامية