أراد الله سبحانه وتعالى لدينه أن يُعَزّ، وأن يؤمن به كلّ الناس، فادّخر لذلك نبيّاً، علّمه بعلمه، وأدّبه بأدبه، ففاضت الرحمة من بين جنبيه، فكان صادقاً أميناً، رؤوفاً رحيماً، سهل الخُلُق، ليِّن الجانب، متحلِّياً بالفضائل والكمالات التي ينزع نحوها ويحنو إليها بنو البشر.
في هذا المقال عرضٌ لنَزْرٍ يسيرٍ من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، كما جاءت على لسان سماحة الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله.
*أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
يمكننا باختصار تقسيم أخلاق الرسول إلى: "الأخلاق الشخصيّة" باعتباره إنساناً و"الأخلاق الحكوميّة" باعتباره حاكماً.
1-الأخلاق الشخصيّة: والمراد بها الأخلاق والمزايا الشخصيّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا بصفة كونه حاكماً ووليّاً. نذكر منها:
أ- العفو والتسامح: جاء أنّ أحد الأعراب الذين اعتادوا العيش في الصحراء والذين لا معرفة لديهم عن المدنيّة وآداب المعاشرة والأخلاق المتداولة فيها، قَدِمَ المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين أصحابه. طلب الأعرابيّ من الرسول شيئاً، فساعده صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاه بعض المال والطعام واللباس، ثمّ سأله: هل أنت راضٍ؟ وهل أحسنتُ إليك؟ وهل هذا مقبول؟ فأجابه: أنتَ لم تنجز لي أيّ عمل، ولم تظهر أدنى محبّة، وما قدّمته ليس شيئاً يُذكر.
كان لهذا التعاطي الخشن مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقعٌ مؤلمٌ وثقيلٌ في قلوب الأصحاب، فغضبوا، ونهض بعضهم وأرادوا توبيخ الأعرابي، إلّا أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رفض ذلك وطلب منهم الكفّ عنه. اصطحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأعرابيّ إلى منزله -والرسول لم يكن يمتلك الشيء الكثير، وإلّا كان بإمكانه أن يقدّم له أكثر من ذلك- وقدّم له أشياء أخرى، ثمّ قال له: "هل رضيت الآن؟ قال: نعم. وقد ظهر على هذا الرجل الرضى والخجل ممّا شاهده من إحسان وحُلمٍ عند الرسول". توجّه إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: الكلام الذي قلتَه قبل قليل أمام أصحابي، جعل قلوبهم حاقدةً عليك وكارهةً لك. هل ترغب في أن نذهب إليهم وتحدّثهم بما قلته لي وتبيّن رضاك؟ قال: نعم، أنا جاهزٌ لذلك. فذهب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأعرابي إلى الأصحاب وبيّن لهم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ هذا الأخ الأعرابيّ راضٍ عنّا، فتحدّث الأعرابيّ، مبيّناً رضاه وسروره وشكره للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؛ لما أظهره من محبّة له. تحدّث بذلك وذهب.
فتوجّه الرسول إلى أصحابه مبيِّناً لهم أنّ مَثَل هذا الأعرابيّ كالناقة التي انفصلت عن القطيع وأخذت تركض في الصحراء، وأنتم حين تهجمون على الناقة لتمسكوها وتعيدوها إليّ، وتتوجّهون إليها من كلّ جانب، سوف يزداد خوفها وخشونتها؛ فيصبح الإمساك بها صعباً. وأنا لم أسمح لكم بزيادة خوف الأعرابي وابتعاده عنّا، بل توجّهت إليه بمحبّة وحنان وأعدته إلى جمعنا(1).
ب- أنفقناه ليبقى لنا: قُدِّمت إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم شاةٌ فذبحها، فاجتمع الفقراء والمستحقّون للحصول على نصيبهم من اللحم. وكان الرسول يُقَطِّع اللحم من الشاة التي ذبحها لنفسه ويوزّعه عليهم، فبقي منها الكتف فقط. وعندما حصل الجميع على اللّحم، أخذ الكتف إلى المنزل لتُطبخ وتُعَدّ للأكل، فقالت إحدى زوجاته: يا رسول الله، وُزِّعت الشاة بأكملها ولم يبقَ سوى هذه الكتف. عندها قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "لا، لقد بقيت بأكملها إلّا أنّ الكتف هي التي سنفقدها؛ لأنّنا سنتناولها ولن يبقى منها شيء، أمّا الذي أنفقناه فهو الذي يبقى لنا"(2).
ج- مداراة وعزّة: عاش الناس مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عشر سنوات ليل نهار، ذهبوا إلى منزله وزارهم في منازلهم، وكانوا معاً في المسجد وفي الطريق، وسافروا معاً وناموا وجاعوا وفرحوا معاً. وكانت تتعمّق في قلوبهم محبّته والاعتقاد به يوماً بعد يوم. ويظهر ذلك عندما تخفّى أبو سفيان، أثناء فتح مكّة، ودخل معسكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بحماية وتشجيع من العبّاس (عم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم) ليحصل على الأمان، شاهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يتوضّأ صباحاً، والناس مجتمعون حوله لالتقاط قطرات الماء التي تنزل من وجهه ويديه! قال حينها: "إنّه رأى كسرى وقيصر -الملكَين الكبيرَين والقويَّين في العالم- إلّا أنّه لم يشاهد فيهما هذه العزّة"(3).
د- محبٌّ للأطفال: كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يتعامل مع الأطفال كما يتصرّف مع الحسن والحسين L. فمرّةً كان صلى الله عليه وآله وسلم يسير نحو المسجد، وكان الأطفال يلعبون في الطريق، فخاطبه أحدهم: إنّك، يا رسول الله، تأخذ الحسن والحسين على كتفَيك، فخذنا نحن أيضاً. لم يمانع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقام برفع طفلٍ إلى إحدى كتفَيه ورفع آخر إلى الكتف الأخرى، ثم أنزلهما بعد أن مشى قليلاً، ثمّ طلب منه طفلان آخران أن يصعدا على كتفَيه، وكان وقت الصلاة يأخذ بالاقتراب. وفي هذه الحالة، جاء بعض الأصحاب لتفقُّد الرسول، فوجدوه يحمل الأطفال، فعاتبوهم وأنزلوهم عن كتفَيه، فتابع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مسيره إلى المسجد.
هـ- مراعاته صلى الله عليه وآله وسلم للحقوق: في عهد الحكومة الإسلاميّة، جاءت امرأة إلى المدينة لرؤية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأظهر صلى الله عليه وآله وسلم لها الكثير من المحبّة؛ إذ سأل عن أحوالها وأحوال عائلتها وتعاطى معها بمنتهى الاحترام واللطف. شاهد الأصحاب ذلك، فتعجّبوا!
وبعد أن رحلت، توجّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه؛ محاولاً رفع تعجّبهم، وموضّحاً أنّ هذه المرأة كانت تأتي إلى منزله في حياة زوجته السيدة خديجة (مرحلة الضغط والحصار والشدّة في مكة). ولا بدّ من أنّ ذلك كان في وقت حاصر فيه الجميع أصحاب الرسول، وكانوا لا يزورون السيّدة خديجة فكانت هذه المرأة تتردّد إليها. لم تذكر الرواية أنّ هذه المرأة قد أصبحت مسلمة. من المحتمَل أنّها لم تكن مسلمة، إلّا أنّ الرسول راعى هذا الحقّ لمجرّد وجود هذه الخصوصيّة، فأظهر المحبّة واللطف بعد سنواتٍ طويلة على ذلك(4).
2-الأخلاق الحكوميّة: ويُقصد بها أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين والأعداء من جهة كونه قائداً وحاكماً، منها:
أ- درس الأخلاق والحياة: في معركة الخندق وأثناء حفر الخندق، عندما كان يرى صلى الله عليه وآله وسلم شخصاً قد ظهر عليه التعب، وأنّه لم يعد باستطاعته التقدّم، كان يذهب ويأخذ المِعوَل منه ويبدأ العمل. فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن حاضراً من خلال إصدار الأوامر فقط، بل كان حاضراً بجسده بين الجموع(5).
ب- درس الحرب: من جملة وصايا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة الحرب، للأشخاص الذين كانوا يذهبون إلى الحرب، الرحمة بالنساء والأطفال، والشهامة في التعامل مع جنود العدوّ، وعدم قطع الماء عنهم، وعدم منعهم من الطعام، وقبول استسلام البعض، وقبول من ادّعى الإسلام حتّى لو كان الأمر في أوج المعركة، أي الابتعاد الكامل عن حالة الانتقام والخشونة. كان الكفّار الذين لا يشعرون بخصومة وعداء مع الرسول، يأتون إليه، فكان عطوفاً رحيماً معهم إلى مستوى أنّهم كان يخجَلُون من ذلك(6).
ج - أسلوب التعامل مع المنهزمين والأسرى:
كان الأسرى والمنهزمون يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان بعضهم مسيحيّاً -سواء من القبائل العربيّة أم غير العربيّة- وكانوا يتأثّرون بأخلاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ ما يدفعهم إلى دخول الإسلام، وقبول دين الرسول. هذه هي ليونة وعطف النبيّ(7).
الهوامش:
1-خطبتا صلاة الجمعة في طهران (28/7/1368) (20/10/1989).
2-من كلام له في لقاء المعوقين (28/4/1368) (19/7/1989).
3-خطبتا صلاة الجمعة في طهران (28/2/1380) (18/5/2001).
4-خطبتا صلاة الجمعة في طهران (28/7/1368) (20/10/1989).
5-خطبتا صلاة الجمعة في طهران (28/2/1380) (18/5/2001).
6-كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن يبعث سريّة بعثها أول النهار. وفي الكافي: بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله وفي الكافي: بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا بعث أميراً له على سريّة أمره بتقوى الله عزّ وجلّ في خاصة نفسه، ثم في أصحابه عامة، ثم يقول: قاتلوا الكفّار بسم الله وفي سبيل الله، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا متبتّلاً في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون، لعلكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم مما يؤكل لحمه إلّا ما لا بدا لكم من أكله، وإذا لقيتم عدواً للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم أجابوكم إليها فاقبلوا منهم وكفوا عنهم". (العلامة الطباطبائي، سنن النبيّ، ص 84-86).
7-من كلام للسيد القائد دام ظله في مركز التوحيد (1/11/1986).
المصدر:مجلة بقية الله