وقد حدّثنا التاريخ الإسلامي أنّ تأسيس الدولة العباسية كان قائماً على دعوة الهاشميين على أساس الثأر النهائي لقتلى الطف والانتقام للعلويين بالقضاء على الأمويين.. وكان الشعراء لم يتركوا فرصة تفلت أو مناسبة تمرّ إلاّ ذكّروا بهذا الثأر، الى أن هيّأ الله لهم ذلك ومكّنهم من الأمر وقضوا على الحكم الأموي وتربّع أبو العباس السفاح على الحكم كأوّل خليفة هاشمي.. يذكّرنا التاريخ بوليمته المشهورة التي حضرها ثمانون رجلاً من عيون الأمويين وهم على سمط الطعام فدخل شبل مولى بني هاشم على السفاح فأنشد في الحال قصيدته المشهورة والغيظ قد أخذه:
أصبح الملك ثابت الأساس بالبهاليل من بني العباس
أنت مهدي هاشم وهداها كم أُناس رجوك بعد أُناس
طلبوا وتر هاشم فشفوها بعد ميل من الزمان وياس
لا تقبلن عبد شمس عثاراً وارمها بالمنون والاتعاس
واذكرن مصرع الحسين وزيداً وقتيلاً بجانب المهراس
فقام السفاح في الحال مغتاظاً وقتلهم جميعاً ثم أباد الأمويين عن آخرهم... وهكذا اتسع المجال أمام الشعراء في رثاء آل البيت النبوي وذكر مصابهم في قتلى الطفوف.
ومن هؤلاء الشاعران المشهوران دعبل بن علي الخزاعي وإبراهيم بن العباس اللذان قصدا من بخراسان.. فقدم الأوّل على الإمام الرضا[1] علي بن موسى بن جعفر أيام ولاية عهده في خلافة المأمون العباسي 203 للهجرة فأنشد قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها[2]:
تجاوبن بالأنّاة والزفرات.. الى أن يقول:
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً وقد مات عطشاناً بشط فرات
إذن للطمت الخدّ فاطم عنده وأجريت دمع العين بالوجنات
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي نجوم سماوات بأرض فلات
ديار رسول الله أصبحن بلقعاً وآل زياد تسكن الحجرات... الخ
وقد أجازه الإمام الرضا (عليه السلام) بعد أن بكى هو وأهله ـ بعشرة آلاف درهم من المسكوك باسمه الكريم، وخلع عليه جبته.. فكان هذا خير رمز للتقدير والإعجاب. وقد اشترى القميون «الجبة» من دعبل أثناء عودته الى العراق بألف دينار.
وهكذا زميله الشاعر إبراهيم بن العباس[3] فقد أنشد الإمام الرضا (عليه السلام) قصيدته الدالية المشهورة التي يقول في مطلعها:
أزال عزاء القلب بعد التجلد مصارع أولاد النبي محمّد
فأكرمه الإمام (عليه السلام) بمثل ما أكرم به زميله الخزاعي.
وكانت جوائز أئمة البيت النبوي في هذا المجال مشهورة بالسخاء والبركة حتى ذهبت مثلاً: «ما بلغت صرة من موسى بن جعفر لأحد إلاّ استغنى» لذلك كان الشعراء يتفننون في هذا الباب الى جانب تأثرهم بروعة فاجعة الطف وفظاعة وقعها.. وكذلك تأثروا بأقوال أئمة أهل بيت النبي في شأن من يرثي الحسين (عليه السلام).. وما له من فضيلة عند الله سبحانه.. فقد قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لجعفر بن عفان: «ما من أحد قال في الحسين (عليه السلام) شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنة وغفر له...».
وهكذا كان الشعراء يتبارون في الرثاء والمواساة والإبداع فيها بهذه المناسبة، في مجالس آل البيت النبوي ومجالس الطالبيين.
وما من شكّ أن هذا العزاء كان فيه العزاء لكل مظلوم وكل ذي حق مهضوم بأعظم السلوان تأسياً بالحسين (عليه السلام).
وكيفما كان في هذا العزاء عرض لتلك المأساة فإنّه لم يخل من فرض لجور الحاكمين وتعريض لضروب الظلم الذي أصاب آل البيت النبوي منهم وتهديد الظالمين بالعاقبة الوخيمة لفتكها بأعلام بيت النبوة.. وما ناله الظالمون من سوء المنقلب كل ذلك على لسان الشعراء والخطباء وفي أروع أسلوب مما كان له أثره في جذب النفوس وتقوية القلوب.. حتى قال أحد الشعراء:
تالله ما صنعت أميّة فيكم معشار ما صنعت بنو العباس
وكانت السلطات الحاكمة يومها وفي فترة من الزمن وراء هذه المجالس تطارد الملقين وتفتك بالحاضرين ولقي الموالون لآل البيت من الشدة ضروب العذاب..
وأُتلفت معظم تلك القصائد والأشعار وغيرها من الآثار ذات العلاقة بالإمام الحسين (عليه السلام). ولو كانت باقية لكانت ثروة أدبية رائعة عن تلك الفترة.
وقد وصف ابن الأثير حوادث دموية مسببة عن ذكرى عزاء الحسين (عليه السلام) جرت بصورة فظيعة بين الحزب المتشيع لآل البيت وبين الحزب المخالف له ببغداد عاصمة الهاشميين يوم ذاك.. كانت تتسع وتتقلص حسب لون السياسة الحاكمة واجتهاد الحكام ذهبت بسببها ضحاياً كثيرة لا لشيء سوى التعصب الممقوت، وبسبب الجهل بمكانة آل البيت من الرسول (صلوات الله عليهم أجمعين)... وعدم تقديرهم لشعائر الود والمحبة لصاحب الرسالة وأهل بيته.
وكان «عزاء الحسين» (عليه السلام) رغم جميع هذه الأحوال قائماً كل عام في موسمه من محرم الحرام وانّما يختلف تقلصاً واتساعاً حسب الظروف ولكنه في جميع الأحوال كان يزداد تمكناً في النفوس واستقراراً في القلوب وكان للشعراء الفضل الأكبر في تقوية هذا العزاء وجذب القلوب إليه.. بقصائدهم الغر في تصوير مصاب الحسين وأهل بيته (عليهم السلام)... حتى أنّ غالبية الموالين لآل البيت (عليهم السلام)كانوا لا يحفلون بقسوة الحكام قدر اهتمامهم للحضور الى مجالس العزاء كائناً ما يكون المصير...
المصدر: نهضة الحسين (عليه السلام) - بتصرّف
[1] قال الإمام الرضا (عليه السلام) كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكاً... وكانت الكآبة تغلب عليه حتى تمضي العشرة الأولى من محرم فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه.
عن المجالس السنية للسيد العاملي (رحمه الله) ج1
[2] قال دعبل الخزاعي دخلت على سيّدي ومولاي علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في أيام عشر المحرم فرأيته جالساً جلسة الحزين الكئيب وأصحابه من حوله فلما رآني مقبلاً قال لي: «مرحباً بك يا دعبل، مرحباًبناصرنابيده ولسانه.. ثم إنّه وسّع لي في مجلسه.. وأجلسني الى جانبه ثم قال لي: يا دعبل أُحب أن تنشدني شعراً فإنّ هذه الأيام أيام حزن كانت علينا أهل البيت أيام سرور كانت على أعدائنا خصوصاً بني أمية... يا دعبل من بكى أو أبكى على مصابنا كان أجره على الله.. يا دعبل من ذرفت عيناه على مصاب جدّي الحسين (عليه السلام) غفر الله له ذنوبه.. ثم نهض (عليه السلام) وضرب ستراً بيننا وبين حرمه وأجلس أهل بيته من وراء الستر ليبكوا على مصاب جدّهم الحسين (عليه السلام) ثم التفت إليّ وقال لي: يا دعبل ارث الحسين فأنت ناصرنا مادمت حياً قال دعبل: فاستعبرت وسالت عبرتي وانشأت أقول:
أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً وقد مات عطشاناً بشط فرات
[3] روى الصدوق في «العيون» عن البيهقي عن الأصولي عن هارون بن عبد الله المهلبي: أنّه لما وصل إبراهيم بن العباس ودعبل بن علي الخزاعي الى الرضا (عليه السلام) وقد بويع له بولاية عهده أنشده دعبل: مدارس آيات خلت من تلاوة... الخ وأنشد ابراهيم بن العباس قصيدته: «أزال عزاء القلب بعد التجلد...» فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدراهم التي عليها اسمه وكان المأمون قد أمر بضربها في ذلك الوقت.. دعبل ذهب بالعشرة آلاف التي حصته الى قم فباع كل درهم بعشرة دراهم. فحصلت له مائة ألف درهم وأما إبراهيم فلم تزل عنده بعد أن أهدى بعضها وفرّق بعضها على أهله الى أن توفي رحمة الله عليه... فكان كفنه وجهازه منها ـ مجلة المرشد ـ.