هناك حكمة تقول:(قد تخلو الزجاجة من العطر يوماً، ولكن الرائحة العطرة تبقى عالقة بالزجاجة، هكذا هي السيرة الطيبة) وهذه العبارة الكبيرة تنطبق على سيدة جليلة، لا يتذكرها أرباب المقاتل والمجالس الحسينية، ربما لقلة المصادر التأريخية، التي لم تنصف هذه المرأة الفاضلة، لأنها في الحقيقة، شاركت مصائب أم الأحزان زينب (عليها السلام)، وقاسمتها الآم السبي والصبر، وما جرى من الطف، وهي كزوجها العباس (عليه السلام) ذابت عشقاً في الدفاع عن ثأر الله وإبن ثأره، إنها السيدة لُبابة.
قصص مشوبة بالدماء الزاكيات، وصبر إسطوري يجلس مكتظاً بالجلالة، والسمو، والزهد، وهو ما أبدعت بفعله هذه العلوية، التي ماتت وهي في ( 28 أو 25) من عمرها الشريف، حزناً ووجعاً على إستشهاد زوجها، ساقي عطاشى كربلاء أبي الفضل العباس، الذي روى ملحمة الكفالة، وصاحب اللواء، والوفاء لأخيه الحسين، فالثاني إبن فاطمة الزهراء، والأول إبن فاطمة أم البنين (عليهم السلام أجمعين)، وفي ليالي كربلاء إجتمعت الفواطم من بني هاشم، لينشرنَ العَبرة والعِبرة في مسيرة طف الغاضرية الأليم.
فبالرغم من وجود عشرات المؤلفات حول بطل الملحمة الكربلائية أبي الفضل العباس (عليه السلام) لكن بعض تلك الكتب لم تشر إلى المرأة التي كانت قرينة هذا الرجل العظيم، أو أشارت إليها إشارة موجزة، فمن هي زوجة العباس؟ وما هو دورها في معركة العزّة والإباء؟
تذكر عديد من الروايات بأن العباس تزوج من امرأة واحدة هي (لبابة بنت عبيد الله بن عباس) وكانت من سيدات عصرها وأفضلهن نسباً وطهارة وعفة؛ فهي تنتمي إلى البيت الهاشمي خيرة الله من العرب، والذي شرّفه بأن اختار منه خاتم أنبيائه.
أبوها هو (عبيد الله بن عباس) وكان والياً على اليمن من قبل الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أما أمها فهي السيدة الجليلة أم حكيم بنت خالد بن قرض الكنانية وكانت من أجمل النساء وأوفرهنّ عقلاً، وقد فُجعت هذه السيدة الفاضلة بمقتل ولديها الصغيرين (عبد الرحمن وقثم) من قبل السفاح (بسر بن أرطأ) أحد قادة معاوية بن أبي سفيان عندما احتلّ اليمن حيث لم يتمكن عبيد الله من الصمود أمام الجيش الأموي الأمر الذي دعاه إلى ترك اليمن لكنه لم يتمكن من أخذ طفليه معه لأنه كان قد أرسلهما إلى البادية لينشآ هناك، وكان هذا الأمر مألوفاً عند أهل الجزيرة العربية، لما علم بسر بن أرطأ بوجود هذين الطفلين أرسل لهما رجاله وأمر بذبحهما.
ولما وصل خبر مقتلهما إلى أمهما فُجِعت بهما وأخذت ترثيهما بهذه الأبيات:
يا من أحسن بابني الذين هما كالدرّتين تشظّى عنهما الصدفُ
يا من أحسن بابني الذين هما سمعي وقلبي فمخي اليوم مُختَطفُ
نُبَّئتُ بسراً وما صدّقتُ ما زعموا من قولهم ومن الإفكِ الذي اقترفوا
أنحى على ودجَيْ ابنيَّ مرهفةً مشحونةً وكذاك الإثم يقترفُ
ولما بلغ قتلهما أمير المؤمنين (عليه السلام) دعا على بسر وقال: (اللهم اسلبه عقله ودينه)؛ فلم تمضِ مدة طويلة حتى انتقم الله سبحانه وتعالى منه فخرف وسُلب عقله و أخذ يتصرف تصرفات تشمئزُّ منها النفوس حتى أهلكه الله وأورده النار وبئس المصير، لقد فتحت السيدة (لبابة) عينيها على الصراع بين البيت الهاشمي والأمويين، وهو صراع عقائدي وكما قال الإمام زين العابدين (عليه السلام): (نحن وبنو أمية تعادينا في الله، قلنا صدق الله وقالوا كذب الله)، حتى بلغ ذلك الصراع ذروته في كربلاء مروراً باغتيال الإمام علي (عليه السلام) وبعده الإمام الحسن (عليه السلام).
*في كربلاء:
وقفت السيدة (لبابة) مع زوجها في كربلاء موقفاً شجاعاً ونبيلاً حيث آزرته وساندته وحثّته على المضي قدماً في الوقوف مع أخيه سيد الشهداء، وظلّت بجانبه وهو يرفع لواء الثورة الحسينية، راية الإيمان والعزة والفداء؛ فسجّل العباس (عليه السلام) أروع مواقف البطولة والوفاء التي أصبحت قصائد يتغنّى بها الشعراء على مرّ الزمن.
ويذكر بعض المؤرخين أن للعباس ولداً من السيدة (لبابة) يدعى (محمداً) كان يحبه حباً شديداً، وكان بين عينيه أثر السجود، فلما رأى العباس حال أخيه الحسين (عليه السلام) قدّم إخوته بين يديه، ثم أتى بابنه هذا وقلّده السيف واستأذن له فقبّل (محمد) يدي عمه ورجليه وودع عماته، وقاتل حتى قُتِل، ويذكرون له بطولات فذّة، وقد ذكره ابن شهرآشوب من شهداء الطف أيضاً ولكن صاحب كتاب (فرسان الهيجاء في تراجم أصحاب سيد الشهداء) ينكر وجود (محمد) هذا ويقول: لا يوجد دليل تاريخي على وجود ابن للعباس استشهد في كربلاء.
*ما بعد كربلاء:
استمرت هذه المرأة تقارع السلطة وتقاسم السيدة زينب (عليها السلام) المصائب والألم، وصمدت أمام تعسف أزلام السلطة وقسوتهم، وشاركت عقيلات الرسالة رحلة السبي المؤلمة من كربلاء إلى الشام وحتى العودة إلى المدينة المنورة، حيث أكملن بمسيرهن الثورة الحسينية وكما أراد لها الحسين (عليه السلام) وخطّط لها بحنكة وذكاء؛ وتمكنَّ بجهادهن وصبرهنَّ وتصديهنَّ للطغاة من سكب قطرات السم الزعاف في كؤوس بني أمية، وقلبنَ نصرهم إلى هزيمة وفضحنَ سياستهم الظالمة.
واختلفت الروايات فيما حصل للسيدة (لبابة) بعد يوم الطفّ، فهناك رواية تقول إنها لم تعش بعد استشهاد العباس (عليه السلام) إلّا قليلاً، وتذكر هذه الرواية أنها توفيت سنة 63 هجرية أي بعد استشهاده بسنتين فقط، وكان عمرها وقت وفاتها خمسة وعشرين سنة؛ لأن محنتها كانت كبيرة ولم تستطع تحمل شدة الصدمة وعمق المصيبة فرحلت عن الحياة صابرة محتسبة، وذهبت إلى ربها راضية مرضية، بينما توجد رواية أخرى تقول إنها تزوجت بعد أبي الفضل من زيد بن الحسن بن أمير المؤمنين (عليه السلام) ورُزِقت منه بنت اسمها (نفيسة) التي تزوجها الوليد بن عبد الملك.
هذه الرواية تحتاج إلى وقفة تأمل، خصوصاً في موضوع زواج (نفيسة) من الوليد بن عبد الملك؛ وذلك لأن الأمويين كانوا يحاولون مصاهرة البيت الهاشمي من أجل إعطاء نوع من الشرعية لوجودهم المشؤوم، كما حدث في خطبة معاوية ل (زينب بنت عبد الله بن جعفر) لابنه يزيد من خالها الإمام الحسن (عليه السلام)، حيث رفض الإمام الخطبة بكل مبرراتها المادية، ومما قاله بالمناسبة: (وإما صلح الحيّين، فإنا عاديناكم لله وفي الله فلا نصالحكم للدنيا) فلا يبعد أن تكون هذه المصاهرة المزعومة من موضوعات الأمويين وضعت لأهداف سياسية.
*أبناؤها:
تضاربت الروايات أيضاً في هذا الجانب من حياة السيدة (لبابة)، ولكن المشهور بين علماء النسب أن للعباس (عليه السلام) ولداً واحداً هو (عبيد الله) وأمه السيدة (لبابة)، كما اتفقوا على انحصار عقب العباس فيه من ولده (الحسن)، وكان عبيد الله من كبار العلماء موصوفاً بالجمال والكمال والمروءة، ربّاه الإمام زين العابدين (عليه السلام) وله منزلة كبيرة عنده كرامة لموقف أبيه، وزوّجه ابنته، وجمع له معها ثلاث من الحرائر من بنات الأشراف ويقصد بذلك تنمية نسل عمه العباس، وكان إذا رآه رقّ واستعبر باكياً، فإذا سُئل قال: إني أذكر موقف أبيه يوم الطّف فما أملك نفسي.
ويرى بعض المؤرّخين أن السيدة (لبابة) أنجبت للعباس (عليه السلام) خمسة أولاد وبنتاً واحدة، والأولاد هم: الفضل، عبيد الله، الحسن، القاسم، محمد الذي ذكره ابن شهر آشوب كما ذكرنا سابقاً، وذكره بعض المؤرخين تمشياً معه، بينما تذكر مصادر أخرى أن أولاد السيدة (لبابة) هما الفضل وعبيد الله فقط.
ومهما تكن الحقيقة فإن أحفاد العباس انحصروا في ابنه (عبيد الله) وكانوا كلهم أجلّاء لهم المكانة العالية بين الناس؛ لأنهم ما بين فقهاء و محدّثين ونسّابين وأمراء وخطباء وشعراء وفصحاء وأسخياء وزهّاد ولا غرابة في ذلك وقد أنجبهم أبو الفضل العباس مع ما يملكه من مزايا ومواهب نادرة لا يجود بها الزمان كثيراً.
هذا ما وَصَلَنا من سيرة السيدة الجليلة (لبابة)، ومع قلّته إلا إنه يلقي الضوء على عظمتها ودورها المميّز في التأريخ ويكفيها فخراً أنها اقترنت ببطل الملحمة الحسينية أبي الفضل العباس (عليه السلام) وكان من نسلهما الرجال العظماء الذين ملؤوا الدنيا علماً وخيراً وبركة.
المصدر: مولقع مختلفة بشكل تلفيقي