السيد عباس نورالدين
كان للإمام المهدي (عجلّ الله فرجه) غيبتان. في الأولى ـ وهي التي استمرّت لمدّة سبعين عامًا تقريبًا ـ احتجب فيها عن النّاس إلا القليل منهم، كسفرائه الأربعة. وفي الكبرى احتجب عن كلّ الناس، وجعل ادّعاء رؤيته بمنزلة الكذبة الكبرى التي تُسقط صاحبها من الاعتبار؛ إلّا أنّ احتجابه هذا لا يعني أنّه (عليه السلام) لا يفعل أي شيء، وأنّه اختار جزيرة بعيدة يعتزل فيها. بل، وبحسب ما لدينا من أحاديث وآيات وروايات، فإنّ وجوده على الأرض يُعدّ عنصرًا محوريًّا في بقاء الحياة فيها واستمرار خط النبوّة والرسالة، حتى تحقيق الأهداف الكبرى للدين.
هذا الوجود يُستبعد أن يكون معزولًا عن أي دور عمليّ، وإن كان لدعائه وتواجده على الأرض أهميّة كبرى من ناحية دفع العذاب عن أهلها.. ولكن، لو لم يكن هناك عمل واقعيّ مناسب لدفع هذا النوع من العذاب (عذاب الاستيصال كما يُقال)، لما كان بالضرورة أن يبقى على الأرض، حيث يمكن لأهل السماء أن يدفعوا هذا العذاب أيضًا.
تشير الآيات الشريفة مثل قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هاد}(1)أى ضرورة استمرار فيض الهداية للناس بواسطة شخص محدّد. وفي قوله تعالى: {قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ}(2)إشارة لطيفة إلى أهمية بقاء الدعوة إلى الله تعالى، لكي يبقى نظر اللطف والرحمة من الله متوجّهًا إليهم. وهذا أيضًا تأكيد على أنّه لو رُفع الإمام من الأرض لساخت بأهلها؛ وذلك لأنّ أهل الأرض مستحقّون للعذاب والعقاب الكلّي بحسب قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُون}(3).
الأكثر تحدّيًا من بين جميع النصوص والتصريحات الواردة في التراث الإسلامي هو إنّ وجود الإمام ضرورة لبقاء الاحتجاج الإلهيّ، لأنّ عدل الله تعالى لا يقبل أن يكون للناس حجّة على الله، بحيث يقولوا يوم الحساب: {رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى}؛(4)وهو معنى أن يحتجّوا قائلين: لقد ضللنا لأنّنا لم نشاهد المثل المتجسّد للشيء الذي تريدنا تحقيقه.
قد تكون الهداية من طرفٍ خفيّ، وكذلك التعليم الذي ربما يتحقّق عبر التواصل الذهنيّ والقلبيّ؛ والدعوة إلى الله قد تكون عبر أُناس محدّدين غير الإمام؛ لكن وجود الإمام كحجّة على الخلق أمر يتطلّب ظهوره بالمقام الذي يريده الله تعالى.
وماذا عن الدور القياديّ الذي يُعدّ ضرورة كبرى للمؤمنين في مواجهة الطواغيت؟ فهل يمكن أن يبقى لهؤلاء من بقية أو دور، فيما لو فقدوا الإرشاد اللازم لاتّخاذ المواقف والقرارات المصيريّة، في اللحظات الحرجة والتحدّيات الكبرى، التي إمّا أن تبقي عليهم أو ينقرضوا؟
حسنًا، لقد كان في التاريخ جماعات تنسب نفسها إلى الإمام، لكنّها تعرّضت لما يشبه الإبادة. وماذا عن عشرات الجماعات التي نهضت ثائرة رافضة للظلم، لكنّها مُنيت بهزائم قاصمة؟!
ونحن نشاهد الكثير من الناس الذين لم يتعرّفوا في حياتهم إلى النموذج الإلهيّ المطلوب، ولم يشاهدوا الشخصية الأصيلة التي يريدها الله تعالى، فتاهوا في دروب الحياة حتى ماتوا.
هل يمكن أن تكون هذه الحجيّة نوعيّة، بحيث يكون طلبها والسعي إليها شرطًا لمعرفتها. وهل يكون التقصير في هذا الطلب سببًا لحرمان المقصّر من التعرّف إلى هذا النموذج؟
قد تتطلّب الحجيّة إيصال هذه الحقيقة وإبراز هذا النموذج لكلّ فرد في العالم.
وقد تكون الحجية بمعنى أنّ من طلب وجد، ولا يحقّ لأحد أن يقول يوم القيامة: إنّني طلبت وفتّشت العالم كلّه ولم أجد. ففي بعض الآيات الشريفة نجد العتاب واللوم على أولئك المستضعفين الذين لم يتمكّنوا من العمل وفق ما يريده الله منهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فيها}(5).
إنّ السعي والسفر والبحث وقطع البلدان هو أمرٌ فطريّ لمن يريد النجاة ممّا هو فيه والخلاص من الضلالة والحرمان؛ كما يحدث في طلب الرزق. فإذا كان الإنسان حريصًا على آخرته ومصيره، فلا بدّ أن يسعى في الأرض حتى يصل إلى الهداية أو يموت دونها. وهكذا بالنسبة لقضية العلم والمعرفة والهداية والقيادة. فلو طلبت تلك الجماعة الثائرة القائد الهادي بصدق لوصلت إليه؛ لكن يبدو أنّ معظم النهضات والتحرّكات الاجتماعية، التي انتمت إلى مدرسة أهل البيت وادّعت محبّتهم، كانت تُبتلى بمشكلة أساسية نابعة من تغليب الأهواء وحبّ الجاه وغيرها من الأمراض، التي تمنع من طلب الحقيقة والهداية.
إنّ وجود الإمام وحضوره، رغم عظمته، لن يكون كوجود الله وحضوره (وإن كان مظهرًا تامًّا له). وها هو الله باطن في عين ظهوره، ومن طلبه وجده، ومن سأله أعطاه، ومن لجأ إليه أحسبه وكفاه. فهل تكمن المشكلة في إعراض الموالين؟ أو في جهلهم بكيفية الاتّصال بالإمام في غيبته لينتفعوا منه كما هو حقّه؟
فإذا ثبت بالدليل العقليّ والنقليّ ضرورة حضور الإمام وفاعليّته ودوره الهادي الاحتجاجي القياديّ التعليميّ الداعي إلى الله تعالى، فلنا أن نسأل إن كان هناك مظاهر ومصاديق لمثل هذا الدور في حالات إقبال البعض وطلبهم الصادق وسعيهم المخلص. فلا بد أنّ هناك العديد من الأولياء الذين طلبوه بحرارة الإخلاص ولجأوا إليه بقوّة الشوق ولوعة الحيرة. فهل يوجد ما يدلّ على تدخّله واتّصاله بهم وهدايته لهم، ولو بوسائط وأساليب خفية؟
لقد جمع بعض الباحثين مثل هذه المواقف، كما في موسوعة الإمام المهدي (دانشنامه إمام مهدي) الصادرة عن مركز دراسات القرآن والحديث في قم المشرّفة. وقد تصح المناقشة في العديد منها، من ناحية أنّها قد تكون نوعًا من اتّصالِ مثال الإنسان بمثال الإمام المهدي، كما يمكن أن يحصل مع الأنبياء والأولياء الذين انتقلوا من هذا العالم أو توفّوا؛ وبالتالي فهذا لا يدل على حضور الإمام وتدخّله بالمعنى الذي ذكرناه. وينطبق الأمر على قضية الرؤية أيضًا. فهناك من يشاهد الإمام في مثاله ـ سواء كان في المنام أو ما يشبهه ـ وقد تصل الرؤية من القوّة إلى درجة اجتماعها مع العالم الحسّي. ولا يَستبعد أحد حصول هذه الرؤية، التي تختلف عن تلك الرؤية المستبعدة في الروايات. وقد صرف بعض الباحثين قضية "تكذيب مدّعي الرؤية" وفسّروها بادّعاء رابطة خاصّة أو سفارة. وفي كل الأحوال، فإنّ الاتّصال من قبلنا ومشاهدتنا لبعض الحقائق الوجودية المرتبطة بالإمام ليس مستبعدًا، لكنّه لا يدخل في كلامنا هنا؛ لأنّنا نبحث عن التدخّل المباشر للإمام فيما يرتبط بدوره المحوريّ.
قد يكون التدخّل الجزئيّ من الإمام في بعض الحالات، خطوة مهمّة في سلسلة الإجراءات والأفعال التي يقوم بها لتحقيق الظهور. فعصمة شخص من الخطأ في الفتوى قد تكون لأجل إبقاء منزلته وحجّيّته ودوره الحسّاس في المجتمع الموالي. وربما يترك الله بعض أوليائه يخطئون في اجتهاد أو رأي أو موقف، لأنّ الخطأ هنا لن يكون حاجزًا أو مؤخّرًا لظهوره المبارك.
فلا شك بأنّ الهم الأكبر للإمام المهديّ (عجل الله فرجه) هو تعجيل ظهوره؛ الأمر الذي سرى إلى كل محبّيه وأوليائه والعاملين على التمهيد بإخلاصٍ ووعي. لكن هذا الهمّ لا يتوقّف عند حدود المشاعر والأحاسيس، بل يتجاوز ذلك إلى سلسلة من الأعمال والإجراءات، التي لا تتعارض مع ضرورة غيبته ومفاعيلها بين الناس بما يتناسب مع ضرورات الهداية والفتنة.
للإمام المهدي همّ كبير يرتبط بظهوره وخروجه للناس، وهمّ آخر يرتبط بالحفاظ على سريّة تحرّكاته وخفاء مكانه واستتاره عن الأعين. وحين يتعارض الأوّل مع الثاني بنحوٍ ما، ولا يكون الوقت وقت الظهور ولا مصلحة في ذلك، فلا شك بأنّ الإمام هنا سيقدّم الثاني. ولهذا حصل النهي عن البحث عنه، وقد هلك المحاضير الذين لا همّ لهم سوى اكتشاف مكانه(6).
فالمؤمن الواقعيّ هو الذي يدرك أهمية الغيبة، في الوقت الذي يستعجل الظهور ويطلبه في الليل والنهار؛ لكن، لأنّه يدرك وجود حكمة بالغة في الغيبة، فهو لا يتعجّل الأمر قبل حلول أوانه. ولهذا، فإنّ قسمًا مهمًّا من تفكيره ينصب على فهم عالم الغيبة الكبرى، وما فيه من عوامل وأحداث ووقائع، لكي تكون له بمنزلة المرشد والواعظ والبصائر. وما يستفيده المؤمن من التأمّل في عالم الغيبة ووقائعه ربما لا يقل عمّا سيستفيده من عالم الحضور والظهور والسلطان الأعظم والحكومة المطلقة.
إنّ بحثنا عن أولويّات الإمام في غيبته وعن أعماله الأساسية التي تمهّد لظهوره، يساعدنا على تلمّس البصيرة في تشخيص أولويّاتنا أيضًا. فظهور الإمام هو غاية كل تحرّكاتنا وتطلّعاتنا وآمالنا؛ وهو الهادي لسفينة نهضتنا ومساعينا الاجتماعية والسياسية وغيرها. ومن المهم أن نبحث في طيّات الكتابات والمنقولات التي تحدّثت عن تدخّلاته المختلفة عن هذه الأولويّات.
الهوامش:
(1)سورة الرعد، الآية 7.
(2)سورة الفرقان، الآية 77.
(3)سورة النحل، الآية 61.
(3)سورة طه، الآية134.
(5)سورة النساء، الآية 97.
(6) عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: هلك المحاضير؛ قلت: جعلت فداك وما المحاضير؟ قال: المستعجلون.
المصدر:مركز باء للدراسات