المشتهر بين الناس هو أنَّ منشأ استحباب زيارة الحسين (ع) يوم الأربعين هو أنَّ السبايا وقافلة والحسين(ع) قد رجعت من الشام إلى كربلاء، ووصلت يوم الأربعين، لذلك استُحِبَّت زيارة الحسين يوم الأربعين. واشتهر بين الناس أنَّه تصادفَ مجيء قافلة الحسين (ع) ووصولهم لكربلاء مع مجيء الصحابيّ الجليل جابر بن عبدالله الانصاري قدس الله نفسه الزكية.
الجواب: نستبعد ذلك..
هذا الكلام مستبعدٌ جداًّ. نعم، نحن نُسلِّم بأنَّ جابر بن عبد الله الأنصاري قد زار الإمام الحسين يوم الاربعين (1)، تبعاً لما أفاده الكثير من علمائنا، وقد أوردوا الكيفية التي زار بها جابر الإمام الحسين (ع)، وأنَّه اغتسل وألقى على نفسه الطِّيب، ثم خطا خطوات قصيرة إلى أن وصل القبر الشريف، وخاطب الإمام الحسين بقوله: يا حسين، حبيبٌ لا يُجيب حبيبه (2). ثم أبَّن الحسين تأبينا مُؤثِّرا جداً، وبعد ذلك زار الحسين بزيارة معروفة رواها عنه عطية العوفي -رحمه الله-، وهو من الرواة الثقاة الأجلَّاء. هذا المقدار وردت فيه رواية، وأمَّا مجيء أهل البيت (ع) وقافلة الحسين يوم الأربعين، وأنَّ رأس الحسين قد رُدَّ إلى القبر الشريف يوم الأربعين، فهذا هو الذي لم يثبت -وإن كان مشتهراً بين الناس-، فليكن ذلك واضحاً.
نعم ذكر بعض المؤرخين (3) أنَّ يوم الأربعين كان قد صادف مجيء جابر ولقاء أهل البيت (ع) به في أرض كربلاء، إلَّا أنَّ ذلك مُستبعدٌ جداً. ونحن إذا أردنا أن نُثبت صحَّة ما ذكرناه من استبعاد، يمكن أن نشير إلى مجموعة من الأمور:
أولاً: وقت خروج القافلة من الشام:
الأمر الأول هو أن مجموعة من العلماء والمؤرِّخين، كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي والعلامة الحليِّ والكفعمي وغيرهم من علمائنا الاعلام، أفادوا بأنَّ خروج قافلة الحسين من الشام كان يوم الأربعين (4)، ففي يوم العشرين من صفر خرجت قافلة الحسين (ع) من الأسر قاصدةً المدينة. نعم، لقد مرَّت القافلة على كربلاء ولكن ليس في يوم العشرين من صفر؛ إذْ أنهم خرجوا من الشام في هذا اليوم فكيف يكون يوم العشرين هو يوم لقائهم بجابر في أرض كربلاء؟! هذا لا يتُمّ.
ثانياً: مدَّة بقاء القافلة في الشام هي عشرون يوماً على أقلّ تقدير:
ويمكن تأكيد ذلك بما ذُكر من أقوال في مدَّة بقاء قافلة الحسين (ع) في الشام..
فقد اختلفت الأقوال في ذلك، على ثلاث طوائف تقريباً:
الطائفة الأولى: أفادت بأنَّ مدَّة الأسر استمرَّت عشرين يوماً (5).
الطائفة الثانية: أفادت بأنَّ مدَّة الأسر استمرَّت شهراً كاملاً -كما عن السيد ابن طاووس (6) قدس الله نفسه الزكية-.
الطائفة الثالثة: أفادت بأنَّ مدَّة الأسر استمرت شهراً ونصف الشهر (7)، يعني خمسة وأربعين يوماً قضوها في الشام ذكر ذلك القاضي النعمان رحمه الله -من أعلام القرن الرابع الهجري-. فعلى أقلِّ التقادير تكون قافلة الحسين (ع) قد بقيت في الأسر عشرين يوماً ويبقى البحث عن الزمن الذي وصلت فيه قافلة الحسين إلى أرض الشام؟
المعروف أنَّ قافلة الحسين (ع) وصلت إلى الشام في غرَّة صفر -واحد صفر-، فإذا بقيت في الأسر عشرين يوماً، فمعناه أنّ أوَّل خروج القافلة من الشام كان في عشرين صفر وهو موافقٌ لما ذكره فقهاؤنا، كالشيخ المفيد، وأبي جعفر الطوسي قدس الله نفسيهما.
أمَّا لو قلنا أنَّها بقيت شهراً -كما أفاد ابن طاووس-، أو خمسة وأربعين يوماً -كما أفاد القاضي النعمان-، فعندئذ يكون خروجهم من الشام في شهر ربيع. فكيف يكون وصولهم إلى كربلاء يوم الأربعين هذا أمرٌ لا يمكن قبوله (8)
ثالثاً: المسير من الشام إلى كربلاء يستغرق 23 يوماً على أقل التقادير
الأمر الثالث: إذا خرجت قافلة الحسين (ع) من الشام في العشرين من صفر -على أقلِّ تقدير- فمتى وصلت العراق؟ ومتى وصلت كربلاء؟
المسافة -على أقلِّ التقادير- من الشام إلى الكوفة تبلغ خمسمائة وخمسة وخمسين ميلاً. يعني تحتاج في قطع هذه المسافة بقافلة الجمال إلى ثلاثة وعشرين يوماً -كما حدَّده أصحاب المسافات-، ثلاثة وعشرون يوماً إذا كانت القافلة تسير في النهار دون الليل، وأمَّا إذا كانت تسير في الليل والنهار فتحتاج إلى أحد عشر يوماً. وحتى لو قطعوا المسافة في أحد عشر يوماً فهذا معناه أنهم وصلوا إلى كربلاء في الأول، أو الثاني من ربيع الأول !إذا كانو قد خرجوا يوم العشرين من صفر، أما لو استغرق مسيرهم ثلاثة وعشرين يوماً كما نستقرب فإنَّ وصولهم يكون في منتصف ربيع الأول.
وأما منشأ الاستقراب فهو لأنَّ المؤرخين ذكروا أنه بعد انتهاء أمد الأسر، والإستنفار الذي حدث في أرض الشام؛ نتيجة الخطابات التي كان يُلقيها الإمام السجاد (ع)، والسيدة زينب (ع)، أراد يزيد أن يظهر بمظهرٍ حسنٍ، فأمر عدداً من أصحابه وجماعته بأن يسيروا بالقافلة على أحسن وجه، وألَّا يزعجوهم في المشي، ويتحركون متى شاؤوا، ويقفون متى شاؤوا، وأن يسيروا بهم ليلا دون النهار (9) -المسير في الليل كان لأسباب ومبرِّرات، بعضها أمنية، وبعضها سياسية؛ حتى لا يلتقوا بالناس فيزداد بذلك النفور والسخط على بني أمية. فإذا كان مسيرهم في الليل دون النهار، فإنَّهم سيحتاجون إلى ثلاثة وعشرين يوماً، بل ربما احتاجوا إلى ثلاثين يوماً بإعتبار أنَّهم كانوا يسيرون ويقفون، وهذه قافلةٌ فيها أطفال، وفيها نساء. يعني أنَّ حركتهم من الكوفة إلى الشام ليس كحركتهم من الشام إلى العراق؛ وذلك لأنهم يسيرون بمشيئة القافلة، وبطبيعة الحال سوف تُراعى حاجات الأطفال والنساء. وإنْ قبلنا أقلَّ التقادير فمدَّة المسير هي ثلاثة وعشرون يوماً، وهذا يعني أنّ وصولهم إلى كربلاء لا يقل عن يوم الحادي عشر أو الثاني عشر من ربيع الأول، فكيف التقوا مع هذا الفرض بجابر في يوم العشرين من صفر؟! ورُدَّت الرؤوس إلى القبور في يوم العشرين من صفر؟! هذا غير ممكن، ومستبعدٌ جدا.
الهوامش:
1-وسائل الشيعة ج14/ 479، مسار الشيعة للشيخ المفيد: 46، جامع أحاديث الشيعة، مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: 788،.
2-النص: خرجت مع جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه الله زائرين قبر الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) فلما وردنا كربلاء دنا جابر من شاطئ الفرات فاغتسل ثم ائتزر بازار، وارتدى بآخر، ثم فتح صرة فيها سعد فنثرها على بدنه، ثم لم يخط خطوة إلا ذكر الله حتى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه فألمسته فخر على القبر مغشيا عليه فرششت عليه شيئا من الماء فأفاق. ثم قال: يا حسين -ثلاثا- ثم قال: حبيب لا يجيب حبيبه، ثم قال: وأنى لك بالجواب، وقد شحطت أوداجك على أثباجك وفرق بين بدنك ورأسك فأشهد أنك ابن النبيين وابن سيد المؤمنين، وابن حليف التقوى. وسليل الهدى، وخامس أصحاب الكساء، وابن سيد النقباء، وابن فاطمة سيدة النساء، ومالك لا تكون هكذا وقد غذتك كف سيد المرسلين، وربيت في حجر المتقين، ورضعت من ثدي الايمان، وفطمت بالاسلام، فطبت حيا وطبت ميتا غير أن قلوب المؤمنين غير طيبة لفراقك ولا شاكة في الخيرة لك فعليك سلام الله ورضوانه وأشهد أنك مضيت على ما مضى عليه أخوك يحيى بن زكريا. بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 65 ص 130.
3-ذهب لذلك مثل الشيخ البهائي في توضيح المقاصد: 6 وذكره السيد ابن طاووس عن بعضهم ثم استبعده: ج3/ 100 ونسب العلامة المجلسي ذلك إلى مشهور الأصحاب ثم استبعد هذا القول ج98/ 334.
4-مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: 787، مسار الشيعة للشيخ المفيد: 46، العدد القوية للحلِّي: 219، بحار الأنوار للمجلسي ج98/ 334.
5-كما هو المستفاد مما أفاده الشيخ المفيد أن خروجهم من الشام كان في العشرين من صفر مسار الشيعة: 46 وكذلك الشيخ الطوسي في المصباح: 787 والعلامة الحلِّي في العدد القوية: 219.
6-إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس ج3/ 101.
7-شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي ج3/ 269.
8-ثمة من نُسب إليه القول بأن يزيد قد أذن لقافلة الحسين (ع) بالرجوع إلى المدينة بعد ثمانية أيام من وصولهم الشام إلا أن هذا القول ليس صريحاً بأنهم خرجوا من حين الإذن يوم العشرين من صفر لأن معناه أن سيرهم إلى كربلاء لم يستغرق أكثر من اثني عشر يوماً وذلك لا يتحقق إلا مع فرض سيرهم ليلاً ونهاراً وهو مستبعد لما ذكرناه.
9-الإرشاد للشيخ المفيد ج2/ 122، أعلام الورى للطبرسي ج1/ 476، الدر النظيم لابن حاتم العاملي: 566.
المصدر:مركز الهدى للدراسات الإسلامية